هل هي عودة الحياة الى مسار أوسلو، ذلك الذي كان يبدو، قبل قمة واي بلانتيشن، في النزع الأخير، يعاني احتضاراً طويلاً، منذ وصول بنيامين نتانياهو الى رئاسة حكومة اسرائيل قبل نحو السنتين؟ قد يكون من السابق لأوانه الاجابة عن هذا السؤال، سلباً أو ايجاباً، وبشكل قاطع جازم... فدون مثل تلك الاجابة عناصر عدة تبقى مجهولة، يصعب التكهن بها وبمفاعيلها المحتملة. ولعل أبرز ما يمكن التخوف منه في هذا الصدد انما يتعلق بمصير الاتفاقات التي تم التوصل اليها، خصوصاً أن التجربة قد برهنت بأن رئيس حكومة الليكود ليس بالرجل الذي يلزمه توقيع أو تعهد، فهو كثيراً ما ارتد على ما سبق ان التزم به، اما بالتنكر له جملة وتفصيلاً، واما بالركون الى المماطلة والتسويف، حتى استنفاد الاستحقاقات المتوجبة، أو من خلال الإمعان اللجوج في إعادة تأويل بنود ما تم إقراره بجهد جهيد حتى افراغه من محتواه. ثم ان المجهول الثاني في شأن ما تم التوصل إليه في واي بلانتيشن انما يتمثل في نقطة لا تحتويها الاتفاقات بالضرورة أو هي لا تحيط بها بالشكل الكافي، أو لا يمكن أن تحدها ضمانات، وهي تلك المتعلقة بوضعية الجولة التفاوضية الأخيرة، ومكانتها ضمن المسيرة التسووية، على ما تريد الحكومة الاسرائيلية، بحيث تفضي مباشرة الى المرحلة النهائية، وفق نظرة حكومة ليكود وارادتها، على أن لا تعقبها بعد ذلك سوى ترتيبات طفيفة، من أجل وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق لا شك في أن اسرائيل تعتبره نهاية المطاف، أي يسد الأفق في وجه امكانية قيام الدولة الفلسطينية. ذلك على أية حال ما هو مرجح بقوة، وذلك ما تجهر اسرائيل، على الأقل حكومتها الليكودية الحالية، بأنه لب استراتيجيتها التفاوضية، وسقفها في الآن نفسه. ودلت التجربة على أن آلية أوسلو، وبقية الاتفاقات النابعة عنها، لا تكفي بمفردها في تذليل مثل هذه المصاعب. اذ أنه كان لا بد، لدى كل مرحلة من مراحل التفاوض، من تدخل من طبيعة استثنائية يقوم به الراعي الأميركي حتى يتسنى التوصل الى اتفاق، بقطع النظر عن الرأي في قيمة مثل ذلك اتفاق أو الموقف منه. وقدمت قمة واي بلانتيشن الأخيرة المثال الأجلى على هذه الحال، حيث كان على الادارة الأميركية أن تجند كل طاقتها وأبرز رجالاتها، بدءاً بالرئيس بيل كلينتون نفسه، وبنائبه آل غور، اضافة الى طاقم وزارة الخارجية، كما كان لا بد من المتابعة الدؤوبة للمفاوضات ومن الاصرار على التدخل في مسارها، بل والانصراف لها على حساب أي من الملفات الأخرى المطروحة على أجندة سياسة واشنطن الخارجية والداخلية، حتى يتسنى تحقيق ما أمكن تحقيقه. ومثل ذلك القدر من الاهتمام الذي أبدته واشنطن بقمة واي بلانتيشن الأخيرة، كان بطبيعة الحال أمراً استثنائياً أملته ظروف خاصة، بعضها يتعلق باعتبارات داخلية وبمساعي بيل كلينتون لايجاد مخارج له من فضيحة ما يعرف ب "موينكا غيت"، وهو ما قد يتعذر تكراره بنفس الدرجة من القوة والزخم والفاعلية كلما أصيبت عملية السلام بانتكاسة خطيرة، وهو ما يبدو أنه سيكون قدرها في مستقبل الأيام. والأسوأ من ذلك أن الاتفاقات الأخيرة من خلال الدور الذي يبدو أن وكالة الاستخبارات الأميركية "سي. آي. إيه" اضطلعت به من أجل إقرارها، وكذلك من خلال الدور الذي أوكلته لها كضامنة للترتيبات الأمنية الفلسطينية - الاسرائيلية زاد من ضلوع الولاياتالمتحدة في عملية السلام، أو في ما يقوم مقامها ويتسمى باسمها، وثبّت موقع الرعاية الذي تنفرد به أصلاً، وأمعن في اتجاه الاعتماد عليها، مع ما لكل ذلك من مخاطر معلومة، لعل أهمها هي تلك التي سبقت الاشارة اليها، من أنه قد لا يكون من المتيسر دوماً لواشنطن أن تهرع لنجدة عملية السلام بنفس الدرجة من "التفاني" كتلك التي أبدتها في واي بلانتيشن. ولكل هذه الأسباب فإنه يصعب القول بأن الاتفاقية الفلسطينية - الاسرائيلية الأخيرة قد جاءت بجديد نوعي على صعيد عملية التسوية في حد ذاتها، أو أنها ستؤدي بالضرورة الى إعادة الحياة الى ديناميكية أوسلو، أو انها ستكون كافية لتحقيق مناعتها من مخاطر انتكاسات خطيرة، وربما قاتلة، مقبلة، وذلك حتى وان أخذنا بعين الاعتبار أن تلك الوثيقة هي الأولى من نوعها، وبهذه الأهمية، يقبل رئيس حكومة اسرائيل على التوقيع عليها في اطار أوسلو، ما قد يفهم منه استعداده للتسليم بذلك الاطار الذي كثيراً ما ناصبه شديد العداء. غير أن كل ذلك لا يعني ان اتفاقية واي بلانتيشن لم تأت بجديد البتة، بل هي على العكس من ذلك ربما مثلت تحولاً استراتيجياً بالغ الأهمية، وان لم ترد عناصر ذلك التحول في بنود تلك الاتفاقية في حد ذاتها، وفي ما هو محض ثنائي في العلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية، بل الى حد ما خارج هذه وتلك. أي تحول نعني؟ تتطلب الاجابة عن هذا السؤال التوقف عند مؤشرات أساسية ثلاثة، ربما لم يجر التنبه الى أهمية بعضها أو الى ما ينتظمها من رابط. يتمثل أول هذه المؤشرات في أن الجانب الأمني كان الطاغي على المفاوضات الأخيرة، وهو الذي وضعت بشأنه أكثر البنود دقة، واتخذت بشأنه أكثر الخطوات دراماتيكية، من ضمنها تمكين وكالة الاستخبارات الأميركية من الدور الفاعل الذي أصبح لها، على ما سبقت الاشارة. أما المؤشران الآخران فهما يتمثلان في الحضور الأردني في المفاوضات الأخيرة من ناحية، وفي الغياب المصري عنها في المقابل من ناحية أخرى. فالملك حسين لم يقعده المرض عن الانتقال الى مكان المفاوضات لدعم جهود الرئيس الأميركي حيال كل من عرفات ونتانياهو. أما مصر فيبدو أنها، وعلى غير ما جرت العادة في مثل هذه الحالات، اكتفت بمتابعة أمر تلك المفاوضات عن بعد، فلم يزر عرفاتالقاهرة على ما كان يفعل في ما مضى كل ما كان عليه أن يواجه استحقاقاً كهذا، كما أن مصر لم تمده بالمستشارين على ما درجت أن تفعل في حالات من هذا النوع. وبما أن الاتفاقات الأمنية المشار اليها هي بداهة ذات طبيعة سياسية، وبما أن البيئة الاستراتيجية الاقليمية للمنطقة قد تغيرت تماماً منذ قيام المحور الاسرائيلي - التركي - الأردني، فإنه ليس من المستبعد أن تكون المفاوضات الأخيرة قد سعت الى ملاءمة مسيرة التسوية مع هذا الواقع الاستراتيجي الجديد، لتدرجها داخله وضمن منطقه، مع دفع السلطة الوطنية الى الانضواء فيه، والى تحويلها الى جزء منه والى عنصر في عداده. وإذا ما صح ذلك، فإن الترتيبات الأمنية الأخيرة تمثل حجر الزاوية في إعادة الصياغة تلك وعنصرها الأبرز. وإذا ما تعلق الأمر بتطور من هذا القبيل، فإن ذلك قد يعني بأن تسوية النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني دخلت في طور جديد وغير معهود، وبأن مآلها ما عاد بالضرورة مرادفاً لإحلال السلام في المنطقة بشكل كامل، وبأن بعض آخر مكونات الاجماع داخل الصف العربي قد زال واندثر.