"التجديد" لفظ صار من كثرة تكراره اشبه بالأيقونة التي لا تشير إلا إلى نفسها، أو المشترك اللفظي الذي يعبر عن معانٍ متعددة بمنطوق واحد. وما تشهده الساحة الإسلامية من دعوات لتجديد الفقه خلال العقود القليلة الماضية يلفت النظر لكثرته وتعدد اهدافه، وتجديد الفقة امر علمي متخصص، قد تمده روافد من الفكر النظري بفكرة هنا أو لمحة هناك، غير أنه يظل مهمة علمية تحكمها ضوابط، ولا يجوز لأحد ان ينتدب نفسه إلا إذا حاز درجة كافية من العلم به. منذ نشأت المذاهب الفقهية، في وقت مبكر من تاريخ الامة والعقل جزء من منظومة الاجتهاد، يزيد دوره من مذهب لآخر ويقل غير انه لم يكن أبداً في نظر اي مذهب فقهي مصدراً للاحكام الشرعية. والتفرقة هنا واجبة بين المذاهب الفقهية والفرق الكلامية، وفي مناخ الاحتكاك الثقافي مع الغرب ظهر إلحاح شديد على فكرة أن يكون للعقل دور أكبر في تجديد الفقه، لا كآلة للتفكير، بل كمصدر للاحكام. وهذا النزوع الى عقلنة الفقه ترافقه منظومة يتم إعمالها متساندة وتشكل، مجتمعة، نسقاً معرفياً مغايراً للنسق المعرفي الذي تأسس بنزول الوحي، كتوقيف إلهي موجه لمكلفين عاقلين يستلزم فهمهم له إعمال عقولهم فيه، حتى لو كان هذا الفهم سيقف عند حد فهم المعنى اللغوي، وهو أكثر مستويات التفاعل العقلي بساطة، لكنه في النهاية عمل عقلي. أولى افكار هذه المنظومة رغبة شديدة في البحث عن علل الاحكام، على رغم ان الكثير من الاحكام الشرعية لا يعرف له علة، وتكون هناك اجتهادات في استنباط حكمة لهذا التشريع او ذاك، لكنها في النهاية اجتهادات للفهم، وليست عللاً تدور الاحكام معها وجوداً وعدماً. وفي سياق اللهاث وراء هذا الهدف، ثمة مثال مشهور، هو محاولة استنباط علة حكم الصيام الذي جاء في القرآن الكريم كأمر غير مشفوع بتعليل "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" البقرة 183. وعندما اجتهد البعض بحثاً عن الحكمة تصوروا انهم ادركوا العلة، فتحدث بعضهم عن الصيام كمشاركة للفقراء في إحساسهم بالجوع، غير أن احداً من المتقدمين او المتأخرين لم يقل بإسقاطه عن الفقراء. وتحدث بعضهم عن فوائده الصحية على رغم أن احداً لم يقل بإسقاطه عن المريض إلا بشروط، وهكذا. فالقول بقدرة العقل على ادراك علل الاحكام، كل الاحكام، يعني ضمناً قدرة العقل على إنشائها، من خلال تحديد مقاصد الشارع وصون مقاصد الشريعة وفهمها فهماً مقاصدياً. ويأتي بعد خطوة تحديد علة الحكم الشرعي وضع العلاقة بين النص والسياق الواقع في وضع معكوس بالحديث عن أسبقية السياق الواقع على النص، وهي مقولة تغفل جملة أمور أساسية: أولها: ان السياق الذي ينحازون اليه سياق مستورد من نسق معرفي وحضاري آخر يوصف بالعالمية ويوصف منهجه بالعملية، ويوضع ما سواه خارج إطار العالم والعلم معاً، وهو موقف مبني على احتكار الحق والواقع معاً من دون سند مقبول. ثانيها: ان القول بأسبقية النص أو السياق من المسبقات التي لا يمكن إثباتها ببرهان نظري أو تجريبي، والانحياز الى أي منهما يساوي الانحياز للآخر، ولا يوجد ما يرجح كفة احدهما على الآخر الا اذا كان تحكمياً. ثالثها: ان الفهم الصحيح للنص يقتضي التعامل معه كما يقدم نفسه لا كما نتصور نحن، طالما آمنا بقداسته وعصمته، والنتائج التي يرتبها هو على مفهومي القداسة والعصمة، والايمان بالقداسة والعصمة ليس مما يتعارض مع العلمية، إذ ان مفهوم العلم نفسه من المسبقات. كما أن ثمة خلطاً حول دور الفقيه، والمساحة المباح له إعمال عقله فيها تؤدي إلى تصور أن دوره إعادة بناء الاحكام الشرعية وفق سياق "العصر"، وتساءل احد العلمانيين المصريين عن جدوى عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها، طالما اصبح بالامكان التأكد من خلو رحمها من الحمل بمجرد الطلاق او وفاة الزوج، وهو في إطار محاولة عقلنة الاحكام الشرعية تساؤل مشروع، لكن النظر الى الحكم الشرعي كتوقيف إلهي ينبغي طاعته، لصدوره عن الخالق سبحانه وتعالى، ولأن ارادته المطلقة اقتضت تعبيد المؤمنين له بطاعته، لا لكونه مبرراً أو قابلاً للتعليل العقلي، هو ما يحل الاشكالية. ومن الامور ذات الصلة بقضية الاحكام الشرعية والتجديد فيها الموقف من العلاقات التي ينشئها الحكم الشرعي. فالولاية التي يرتبها الشرع للرجل على زوجته وابنائه، مثلاً، اصل شرعي تترتب عليه نتائج مهمة في العلاقات الاجتماعية، وهي نتائج لا ترتبط بمفهوم التعليل العقلي سالف الذكر، كما أنها لا ينبغي أن تحمل - في نظرنا - أوزار الافتراق الحادث في مجتمعاتنا بين التنظيم الشرعي والتنظيم الاجتماعي. فالاتجاه الى النظر الى المواطنين كأفراد في كل المنظومات القانونية المطبقة في واقعنا يؤدي الى وضع الاحكام الشرعية في حال صدام مع حركة المجتمع، والحل ان يعود التنظيم الاجتماعي إلى التطابق مع التنظيم الشرعي أياً كانت الضريبة، وإذا كان العلمانيون يتحدثون بجرأة - يحسدون عليها - عن "ثمن التقدم" فإن علينا أن نتحدث بجرأة عن "ثمن الالتزام". فالدين لم يأت ليشرع للناس ما يحقق لهم مكاسب دنيوية، وإن كان بالضرورة يحقق لهم التوازن بين الدنيا والآخرة، لكن حدود هذا التوازن ومعاييره مما استأثر الله بعمله، وإذا صارت المنافع الدنيوية متعارضة مع حكم شرعي صحيح، لا مع اجتهاد، فإن المشكلة لا تكون في الحكم الشرعي، بل في فهمنا نحن للمنفعة التي يجيز الشرع تحقيقها معنى وحدوداً. وليس معنى هذا أن العلاقة بين الدين ومفاهيم الواقع، والسياق، والمصلحة القائمة على التنافي، فهي علاقة مركبة اساسها مركزية النص الديني ووجود جدل بين النص والواقع وهو جدل للفقيه نفسه دور فيه. والعلاقة لا تشبه حتميات التفاعلات الكيماوية، التي لا يكون لشخص من يجربها اثر في نتائجها، وفي البعد الإنساني في الفقه إحدى ضحايا مفهوم عقلنة الدين، إذ يسعى البعض إلى تحويله الى عمل آلي قابل تماماً للتنميط، بينما الاجتهاد ملكة لا مجرد بذل جهد كما يذهب كثير من علماء الإسلام. وإذا كان العصر يطرح علينا اسئلة جديدة - وتلك سمة كل عصر - فإن علينا أن نبحث عن اجابة الاسئلة في الوحي، لا أن نبحث عنها في الحياة المعاشة، وحتى تكون مسيرة التجديد مستقيمة، ينبغي ان نفرق بين مفهومي الاعلام والاجتهاد. فالقضية ان الذي يعلم جاهلاً بحكم شرعي ثابت لا يتغير بتغيير الزمان والمكان: كوجوب الصلاة او عدد ركعاتها إنما يقوم بعملية إعلام، أما أن ينشىء حكماً فقهياً جديداً فهو عمل عقلي ينقسم الى نوعين: اولهما: ان يكون الحكم الجديد تفريعاً عن اصل تربطه به روابط تجيز إلحاق الثاني بالأول. ثانيهما: ان يكون حكماً جديداً يقيس فيه واقعاً إلى قاعدة يرى إلحاقه بها مستخدماً قواعد استنباط الاحكام. وليس لأحد كائناً من كان ان ينكر معلوماً مناطه الاعلام بدعوى حرية الاجتهاد، وليس لمجتهد أن يدعي وجوب اتباع اجتهاد بدعوى أن الشريعة ملزمة. ولكي تستقيم مسيرة التجديد ينبغي أن يحجم الفقهاء عن دخول مساحات المباح الذي لا نص فيه بأمر او نهي، مستندين الى تشقيقات وتفريعات بعضها لا يمت للشرع بصلة، وأن يتوقفوا عن الخلط المتعمد بين دور الفقيه ودور المفكر الإسلامي وهو واقع يعكسه اداء كثير من الفقهاء الذين يطرحون رؤاهم الفكرية، بل أحياناً ميولهم الشخصية بوصفها احكاماً شرعية، كما يعكسه واقع ما ينشر في الصفحات المخصصة لباب الفتوى في الصحافة العربية، إذاً تجد اسئلة كثيرة طريقها الى هذه الصفحات، بينما مكانها الصحيح ان توجه إلى امر مرشد نفسي أو اجتماعي او رجل قانون، وخطأ السائل في اختيار من يتوجه إليه بسؤاله لا يبدر خطأ المجيب الذي يقحم الإسلام في أمور الشارع ألا تكون موضوع أمر او نهي. ولئن كان التجديد تحدياً يواجه فقهاء الامة، فإنه ينبغي ألا يتحول إلى مريض يعصف أن يكون ثابتاً، فبقاء الفقه على حال من الجمود خطأ لا يقره منصف، غير ان تدجين الفقه باسم التجديد خطيئة ينبغي أن ينأى عنها الفقهاء. * كاتب مصري.