تتضافر القرائن على أن قواعد اللعبة التي أقيمت في أوسلو قد تحطمت. ديناميك السلام تعطل باغتيال رابين وفشل بيريز في خلافته. تنجح المفاوضات بين عدوين في حالتين: عندما لا يبقى للطرف المهزوم سوى خيار التوقيع على استسلامه، المفاوضات الفرنسية - الجزائرية في 1962 والأميركية - الفيتنامية في 1975 نموذج. أو عندما ينجحان في بناء الثقة المتبادلة. انتخاب نتانياهو على برنامج معاد للسلام وجه ضربة موجعة للثقة بين المتفاوضين الاسرائيليين والفلسطينيين. أما زيارة شارون للأقصى وحمام الدم الفلسطيني الذي تلاها فقد أجهزا عليها. وإذا كان شرم الشيخ قد فشل فذلك، أساساً، لأن الثقة المتبادلة كانت حُطاماً. كيف يبدو المشهد في مثل هذا المناخ؟ باراك عاجز عن تحدي جنرالاته ومستوطنيه الخائفين من السلام. بالمثل عرفات عاجز عن تحدي متطرفيه الذين يطالبونه ب"تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب" كما يقول برنامج حماس. حسب مصادر صحافية أردنية، يؤكد عرفات في مجالسه الخاصة بأن باراك أضحى أسيراً لمجموعة من الجنرالات الرافضين لعملية السلام ربما لتبنيهم نظرية ليكود القائلة بأن المجتمع الاسرائيلي ما زال في حاجة الى عدو خارجي ليتماسك داخلياً لذلك فالسلام الاسرائيلي - الفلسطيني حامل في المدى القصير للحرب الأهلية بين المتدينين والعلمانيين وفي المدى البعيد لذوبان الهوية الاسرائيلية في المحيط العربي. المعلق الاسرائيلي أورلي أزولاي كاتس يذهب أبعد من تحليل عرفات. يقول: "عبرت الادارة الأميركية في التصريحات الداخلية عن غضبها على شارون وفي الكواليس استشاطوا غضباً أيضاً ضد باراك وبن عامي. وفي احدى الجلسات طُرح افتراض يقول بأن باراك ترك شارون يزور الأقصى بقصد مبيَّت في التصعيد للتهرب من عملية السلام. حسب هذا الافتراض ارتعب باراك من كامب ديفيد فبحث عن حيلة لتفادي تسجيل اسمه في كتب التاريخ كمقسّم للقدس" ايديعوت احرونوت 13/10/2000. وبالمقابل يعزو بعض المعلقين الاسرائيليين لعرفات نية تأجيل توقيع السلام الى ما بعد الانتخابات الأميركية حيث يتحرر الرئيس الجديد من الصوت اليهودي الضاغط. أما المعلق الاسرائيلي عكيفا الدار فينسب لعرفات نية رفض التفاوض في ظل ادارة كلينتون عسى أن تكون "الادارة الجديدة أقل يهودية منها" مدعماً تحليله برفض السلطة الفلسطينية الرد على مكالمات اولبرايت وبوصف وزير الثقافة الفلسطيني، ياسر عبدربه، للمبعوث الأميركي للشرق الأوسط دينيس روس، بأنه "العضو الأكثر تطرفاً في الوفد الاسرائيلي". ما العمل في وضع يبدو فيه الطرفان فاقدين للثقة المتبادلة وللارادة المشتركة لمتابعة مفاوضات السلام وللقدرة على فرضه على رافضيه في معسكريهما بينما التدخل الأميركي لفرض السلام عليهما بلغ حدوده؟ تركهما وجهاً لوجه يعني أخلاقياً اختيار المجموعة الدولية لموقف المتفرج السلبي على مذبحة فلسطينية يومية ينقل التلفزيون على مدار الساعة وقائعها ويعني سياسياً ترك الشرق الأوسط يغرق في الفوضى والدم. لماذا لا يتقدم مجلس الأمن برعاية مسار السلام؟ إذ بدون ذلك قد تمتد المواجهة الدائرة التي أسفرت عن اكثر من 120 قتيلا و4000 جريح فلسطيني و8 قتلى اسرائيليين الى جميع مناطق السلطة الفلسطينية لاسقاطها. بل ان الحريق قد يمتد الى لبنان لتدمير بنيته التحتية وربما ضرب القوات السورية فيه وحتى في سورية نفسها. قطعاً للطريق على هذه الاحتمالات يبدو التدخل الدولي أولوية قبل 15 تشرين الثاني نوفمبر حتى لا يؤدي اعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد الى تنفيذ اسرائيل للفصل من جانب واحد بين الشعبين. وهذا القرار يعادل حكم الاعدام اقتصادياً على الدولة الفلسطينية التي سيمنع عنها حتى الكهرباء فضلاً عن الدواء. مهمة التدخل الدولي لن تكون صعبة جداً طالما توقيع السلام لم يكن يتطلب، على قول شلومو بن عامي لروبير فيدرين، الا "أقل من أسبوعين". ونعرف ان السلام السوري - الاسرائيلي تعطل بسبب 10 أمتار. شرط قابلية السلام المفروض دولياً للحياة هو اعتماده على الشرعية الدولية والسوابق المصرية، الأردنية واللبنانية: الانسحاب الى حدود 1967 وتبادل الأرض بين الفلسطينيين والاسرائيليين عندما تحتفظ اسرائيل بأرض فلسطينية. لأن كل سلام إذعان يفرض على الفلسطينيين سيكون في نتائجه شبيهاً بالسلام المذل الذي فرضته معاهدة فرساي على المانيا سنة 1919 والذي أعطى النازية والحرب العالمية. بالتأكيد السلام المفروض سيكون بارداً كالصقيع لكنه يبقى أفضل من الحرب وأفضل من الانسحاب الاسرائيلي من طرف واحد من 90 في المئة من الضفة الغربية لأنه سيترك أسباب الصراع معلقة كاللاجئين والقدس والحدود والماء وتبادل الأراضي... كيفما تحقق السلام فله ديناميكه الخاص الذي سيقود الى المصالحة التي لن تتحقق طالما الشعب الفلسطيني لا يستطيع الاعتراف بالآخر الذي يذله ويحتله. فقط - وفقط - بعد الاستقلال وإسهام اسرائيل الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي في مساعدة فلسطين على مكافحة تخلفها يمكن التقدم الى المصالحة الفلسطينية - الاسرائيلية واليهودية - العربية التي هي أهم شرط لتحديث الشرق الأوسط الذي ما زال، ببناه الاجتماعية والذهنية، يعيش في القرون الوسطى.