في كتابه "ضرورة الكلب في المسرحية" الصادر عن "أصوات أدبية" في القاهرة يجمع الشاعر المصري جرجس شكري بين أكثر من أسلوب تعبيري وشعري، وأكثر من سياق بنائي قامت عليه نصوص الكتاب، فهو اضافة الى اهتمام قصيدته وانشغالها بشعرية صورية تذكّر بمناخات قصيدة شعراء الثمانينات وما كان لها من أثر في وسم شعراء التسعينات بذائقتها من حيث اعتمادها الإيحاء، واشاعة المناخ غير مكترثة للنص وموضوعيته فإن شكري يحاول دمج أسلوب الكتابة المسرحية، والقصة القصيرة، والسيرة في نص شعري حديث. تكشف القصيدة الأولى "الى سيدة الورود الحمراء" عن شاعر يميل الى التداعي عبر الإخبار الأقرب الى الحكي، المتخفف من هم الانشاء الأدبي وثقل اللغة وانتقاء مفرداتها، الا ان هذا التداعي يظل عائماً على تخوم التأويل الشعري - الكوني الذكي، العابر غير المستطيب. الإقامة بعيداً عن عالم اليومي المنخرط في الزمان والمكان: "كنتُ حجراً/ صرت فضاء/ وعندي شوارع وأولاد". ولا يبدو اهتمام شكري بالزمان والمكان اهتماماً يدخل في المجال العيني الملموس، ودلالته غير محددة أو مقبوض عليها. هذه الدلالات وان تكن تطمح الى حضور مستمر، لكنها تنفيه لتنسج له حركة دائرية ذات هم شعري ينزع الى احتضان المهمل، المنسي وتلميعه والركون اليه. كما وان اختيار شكري الموضوعات المتصلة بالحياة اليومية، اللصيقة بالإنسان تجعل من نصوصه المشغولة بلغة بسيطة وعفوية وحميمية تنتزع من القارئ تعاطفاً وانسياقاً ممتعاً. وان تكن قصيدة شكري متأثرة بتجارب سابقيها وديع سعادة وعباس بيضون مثلاً تجاور أو تنهض كما عند هذين الشاعرين على مناخات "مدار الجدي" و"مدار السرطان" كما عند هنري ميللر، فإنها ذات مذاق ووقع مختلف، تبحث عن صوت ونبرة خاصة "أنا وسترتي نخرج في نزهات شتائية/،... أحملها في يدي حين يختنق العالم/ سترتي تحب الشارع مثلي/... فتمشي هي وحيدة/ لا تكلم أحداً". في قصيدة "موت" ينشئ شكري جواً من الود والعلاقة المتينة والانصهار بين الإنسان والأشياء الى درجة الموت. وليس الموت الذي قصده الشاعر هنا سوى الوحدة التي لا تجدي معها المحبة، ولا حتى الأحاديث، واختراق الصمت وحياة الجمادات عبر وهم أنسنتها، ومحاولة تبديد خشونة الوحدة وقسوتها لعل الإنسان يتآلف معها حتى يكاد الموت يبدو أكثر رأفة: "بيتي كبير وأوسع من محبتي/... وحين قررت أن أرحل/ بكى البيت/ وصار تابوتاً أنيقاً/ أمرني أن أنام فيه بسلام". وفي قصيدة "حياة" التي تلي قصيدة "موت" مباشرة يلتف شكري على جو الموت الذي بدا ودوداً الى الحياة نفسها في سياق فني سينوغرافي يلفَّ الشاعر به جسد القصيدة المفعم بالعدم والغرابة: "ثمة قطار يحمل الموتى/... الى أين/ سأل راكب الى جواري/،... خلع آخر ملابسه/ وصنع علماً/ ربما يدل العابرين علينا/... أمطرت/ وتسرب الماء الى مقاعد الموتى/... ورحنا نسامرهم/ والسائق يمشي في خط مستقيم". وفي "ناصب الأفخاخ" يبدو شكري مهذاراً، خالطاً الأشياء بعضها ببعض. في هذه القصائد يبدو جرجس شكري انه قد وقع تحت تأثير الكتابة الجديدة سواء في بناء جملته، أم في سياقاته النفسية في التعبير. ولعل ما اشتغل عليه سعادة وأصبح مع الوقت أسلوبه الخاص وصوته العالي الذي ميزه بوضوح هو الذي ترك تأثيراً بيّناً على شكري انعكس في ما ضمته هذه القصائد. وعلى رغم ذلك تمكن شكري من اقناعنا بأن ما حملته هذه القصائد التي ضمها ديوانه إنما تفصح عن شاعر يتلمس طريقه الحتمي الى الشعر.