في البدء علينا أن نثمن ألمعية الدكتور سعيد السريحي في اقتناص الأفكار التي من شأنها ان تجمع حوله المؤيدين والرافضين. وسعيد حين انطلق في كتابه "حجاب العادة أركيولوجيا الكرم، من التجربة للخطاب" الصادر عن دار المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 2000، إنما اقتنص فكرة قد تكون مرت على الكثيرين من الشراح الأوائل لكنهم لم يسجلوها لأنها تتنافى مع التجربة والخطاب السائد الذي قامت عليه حياة الرجل العربي آنذاك، وهي فكرة بسيطة لماحة لا يقتنصها غير الصيادين. أثناء قراءة كتاب "حجاب العادة" تسلم له بجزئيات وتتراجع في جزئيات، هذا التردد بين الموقفين مرده قناعتك كقارئ بضرورة مراجعة أقوال الشراح وتمحيصها وبين القيمة الأخلاقية التي تشربنا بها عبر تمجيد الكرم من قنوات دينية وأدبية واجتماعية كل تلك القنوات التي تحث على بذل السخاء وبالتالي يكون خطاباً لم يلتفت أحد لمناقشته. والكرم خصلة إنسانية تعمقت عند العرب لظروف معيشية قاهرة تحولت في ما بعد الى صبغة وصفة عربية نطلقها مادحين الأسخياء بالكرم، وذامين الأشحاء - إن جاز هذا الجمع - بالبخل. والطبيعة الإنسانية يتجاذبها الحسن وضده كفطرة إنسانية، فالشجاع يتجاذبه الإقدام والتقهقر، والحليم يتجاذبه الجهل والأناة وهكذا، إلا أن الخطاب العام يعمل على تثبيت ما هو حسن ويهمش ما هو مغاير للسائد خصوصاً أن الشاعر عادة ما يكون مداحاً أو هجاء يدخل من الباب الحسن في المدح ويلج مولج القبح إذا كان هجاء، هذه النقطة كانت مدخل سعيد لاصطياد المهمش من القول وشط بنا أيما شطط، وكأنه بأخذنا معه في مغامرة العجيب والغريب أوهمنا أننا مقبلون على عالم مدهش بكل تفاصيله، وبصدق استطاع أن يوهمنا بذلك من عنوان الكتاب "حجاب العادة"، هذا الحجاب الذي نسدله على مقولات دخلت في باب الحقائق من دون تمحيص لها، ومن هنا ندخل الى تجاويف فكرة سعيد، تلك الفكرة البسيطة والغريبة والتي حاول جاهداً أن يجمع لها من الشواهد المتناثرة ما يقنعنا به، على رغم أنه أهمل أيضاً كثيراً من الشواهد التي تقوض مغامرته، فالناقد الذي يعرف "من أين تؤكل الكتف" يستطيع أن يدلل على مقولاته ويظل الجدل فيها جدل بائعي الماء بجوار مجرى النهر. ولو بدأنا من كلمة "اركيولوجيا" فإننا نقف عند كلمة مرادفة لهذا المصطلح تفضي للحفريات التي يطبقها الباحثون الأثريون في بحوثهم، واستدلالاتهم، فالباحث الأثري حين يقف على موقع يبدأ بالفرضيات والاحتمالات، ففرضاً لو وقف على مدينة ردمها الزمن بألف عام، فإن هذا الباحث يهمه أن يحصل على أدوات ونقوش وحجارة وأخشاب ليحدد الفترة الزمنية لأهلها ومن سكنها ويتعرف على مسيرتها الحضارية ويريد معرفة تفاصيل كثيرة كالري والرعي مثلاً عندها يصبح كل ما جمعه يعنيه بشكل أو بآخر. وأثناء جمعه لهذه الأشياء لن يكون جازماً أن الأواني التي وجدها مهشمة قد يكون زمنها سابقاً لهذه المدينة أو لاحقاً لكنه يتأرجح بين الشك واليقين كون ما حصل عليه بقايا للمدينة التي عمرها ألف عام خصوصاً إذا لم يجد ما يدل على قدمها أو جدتها وبالتالي تدخل ضمن دراسته على أنها بقايا للمدينة التي ينقب فيها، وهذه إحدى مزالق عنوان كتاب "أركيولوجيا الكرم"، هذا إذا سلمنا بالمفهوم المترسخ عن مفهوم الحفريات فتصبح شواهده مجرد ركام لم يخضع للتمحيص، وقد وضع كل افتراضاته في سلة واحدة للتدليل على فرضية يمكن لشواهد أخرى أن تنفيها وتنسفها، كما أن لكل شاهد ظرفه التاريخي والاجتماعي، وإطاره الزمني الذي قيل فيه، ولا يجب إغفال المؤثرات التي أفضت لقوله، ويمكن في حالات فردية انطباق مقولات سعيد لكنها ليست معممة في الخطاب العام. ولو انطلقنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت متمماً لمكارم الأخلاق" فهذا الحديث ينطوي على أن ثمة سلوكيات كانت سائدة في المجتمع الجاهلي تدخل في باب الحسن وجاء الإسلام ليتممها ويرسخها وينتدبها لأن تكون سلوكاً لابن هذا الدين الجديد وفي أحيان يضفي عليها الصبغة الشرعية. فالشجاعة مثلاً ترعب الجبان وتقلق مهجته حين ينتدب للدفاع عن القبيلة فيتظاهر بأنه المغوار والصنديد، وهذه مسألة طبيعية. لكن الخطاب حين يثمن الشجاعة كقيمة يسقط المتخاذلين والجبناء ويصبح ممجداً لصفة الشجاعة، وتصبح تجربة الجبان غير قابلة للتعميم من خلال الخطاب العام الذي يمجد الشجاعة في زمن الغلبة للأقوى، وهذا ما حدث للكرم. ففي زمن إذا لم يُغث الملهوف والمقطوع فإنه سيلجأ الى مد اليد للحصول على حاجته مهما كلفه الأمر، ومن باب أولى أن يحتاط المضيف فيقدم واجب الضيافة - وهذا من ضمن الاحتمالات التي يمكن الإشارة إليها في سيادة التجربة وانتقالها الى الخطاب لكنها ليست الدافع الوحيد لسيادة التجربة - وهذا الذي أقره سعيد السريحي لتخريجات بعض الشراح لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يبدأ بالإسناد، قال حدثنا الليث، قال: حدثني يزيد عن أبي حجر عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى فيه؟ فقال لنا: إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف. ولم أكن محباً البدء بما انتهى سعيد ولكن سياق الكتابة ساقني لذلك فلا بأس ان أعود مرة أخرى للبداية. الدكتور سعيد - ها أنا أثبت له شهادته الأكاديمية خصوصاً أنني اقول سعيد مجرداً وفي أحيان أقول الدكتور سعيد - يرى أن خطاب الكرم متناقض مع التجربة إذ تصبح للنفس طبيعتان متعارضتان ومتناقضتان لتأتي اللغة وتجعل النفس الواحدة نفسين تنهض كل واحدة بطبيعة من هاتين الطبيعتين، وتقوم واحدة منهما بنفي الأخرى وتهميشها لتصبح هذه النفس نموذجاً للكرم وهو يستنبط هذا من لوم الأنثى للشاعر ويحملها دلالات النفس، وهي قراءة جميلة، ويمكن القول أيضاً إنها متعسفة حيث يمكن لقارئ آخر أن تمثل له المرأة المثبطة للبذل على أنها شح الأنثى وخوفها من غوائل الزمن، فلو مات زوجها فهي التي ستتحمل تعب وعنت الأبناء، فكيف جاز لسعيد أن يحمل دلالات صوت المرأة اللوامة على أنها النفس البخيلة الموازية للعطاء في نفسية الشاعر. وإذا كان سعيد يقذف أو يتهم شراح الشعر ونقاده أنهم ركضوا خلف الصور والرموز والاستعارات والكنايات والتراكيب اللغوية التي أحوجتهم الى جهد كبير وتكلف في التأويل والتخريج كي يدخلوا ما قرأوا في باب الخطاب فهو أيضاً يؤسس للدور أو الخطاب نفسه حين حاول جاهداً إثبات تخريجاته حين قرأ الخطاب قراءة أخرى معاكسة لقراءات الشراح، فالخطاب قرئ من قبل سعيد قراءة تناسب مغامرته. وقول سعيد "إن كثيراً من معالم لغة الشعر الذي تناول الكرم لا يمكن إدراكها على أنها نتاج لتوتر العلاقة بين بنية التجربة وبنية الخطاب، ويكون بإمكاننا مقاربتها إذا ما نظرنا الى دلالات هذا الشعر على أنها تستنبط في داخلها نقيضها أو أنها محاولة من اللغة لتقول شيئاً في الوقت الذي ينبغي عليها فيه أن تواري هذا الشيء، فتكون النتيجة أن تقول اللغة الشيء ونقيضه وأن تظهر بمقدار ما تخفي، وتخفي بمقدار ما تظهر، ويكون كثير من معالمها المفاجئة لنا، عبارة عن تمزقها بين بنية الخطاب وبنية التجربة". هذا القول اصطياد ذكي لطبيعة الأشياء وطبيعة النفس البشرية ويمكن لنا حيال هذا أن نسلمه قناعتنا، لكننا سرعان ما نسترجعها لو وقفنا على الخطاب كاملاً، فالخطاب في مجمله يدعم التجربة، وتصبح الأبيات التي أقام الدكتور سعيد هرمه على أرضيتها ناشئة عن إهمال التجربة وإدخالها مدخل الشح ويصبح تراكم الخطاب هو المؤسس للقيمة وما عداه يمثل الشاذ. فحينما يحمل مقولة أبي تمام: "فعلمنا أن ليس إلا بشق /الأنفس صار الكريم يدعى كريما" مدللاً به على تنازع النفس في قبول التجربة يمكن لقارئ آخر لهذا البيت القول إن الكرم لا يتأتى إلا بالمثابرة ومد الأيادي البيضاء واستمرارية العطاء لكي يتفوق على الكرماء ويذيع صيته بين الناس فيتشرف بلقب الكريم، وبالتالي لا يحصل على هذا اللقب إلا بشق الأنفس. ويمكن أن أذهب معه في فكرته حين نعلم أن التجربة الإنسانية سابقة لخطابها، حيث يبنى هذا الخطاب عبر سنوات طويلة في سلسلة تراكمية طويلة قد يكون بدايته توافر الضدية القبول والرفض إلا أنها حينما تؤسس خطابها على أنقاض الرافض فإن التجربة في نهايتها أو تسلسليتها تخضع للخطاب الذي يمثل السطوة والقوة. فالعرب لم تكن تخشى شيئاً خشيتها من الذم والهجاء، فإذا كانت ترفض شيئاً في مبتدئه فإنها لن تعرض سمعة القبيلة بما يشينها حين يتثبت الخطاب ويصبح ملزماً وكأنه قانون، فالأعراف العربية ملزمة التنفيذ من قبل أفرادها، وهذا يحقق لسعيد استمالتي لصفه ولكن ليس بالصيغة التي ذهب إليها بالمطلق وإنما في حالات فردية لا يمكن أن تمثل التجربة بمجملها. والخطاب الذي تناوله سعيد - لو أسلمنا له - خطاب ممعن في البعد... هذا الخطاب الذي حول الكرم الى نزعة أساسية لمتلقيه فلم تعد النفس تنفر منه بل تسعى للالتصاق به، حتى أشد البخلاء يسعى لأن يوصف بالكريم. ومشكلة هذا الكتاب أنه انطلق من التجربة بعمومياتها ليؤكد أنها أفضت الى خطاب تعتوره منازعة نفسين همشت إحداهما الأخرى كاستجابة للخطاب العام، وكان يمكن أن يكون هذا البحث أكثر تحملاً للصدمات لو أن سعيد لم يعمم كل الخطاب. وأرى أيضاً أنه انتقل من الخطاب الذي توصل إليه من خلال استنتاجاته الى التجربة بتعسف وليّ الأشياء لتنقاد له. ويظل هذا الكتاب محفزاً لأن تتابع ألاعيب سعيد وكيف يتماهى مع فكرته لحد الافتتان ويغريك لأن تصحبه وهو متيقن أنه ممسك بك تحت إبطه، أو كمن يغمض عينيك ويظل يصف لك جمال الطبيعة وتنقلك من حقل الى آخر بينما هو في الحقيقة يدور بك في منطقة واحدة ويصف لك مناظر جالت بمخيلته، وهذه براعة لا شك، ودائماً ما أغبط سعيد على مقدرته الفذة على خلق عوالم يقنعك انها حقيقة، فنقده - للأعمال الإبداعية - يرتكز على مخيلة الفنان في داخله أكثر من الناقد الصارم، فلذلك تجد في دراساته شطحات الفنانين وإبداعهم. ومن ألاعيب سعيد في هذا الكتاب أن الكتاب في حقيقته قائم على فكرة بسيطة "مطها" لتصل الى 134 صفحة من الحجم المتوسط، فالفكرة بدأت بالفصل الأول "توطئة" وانتهت بالفصل الأخير "قاع التجربة" من دون أن تحتاج الى الفصول التي بينهما لكنها "حركات" سعيد السريحي. * كاتب سعودي من أسرة "الحياة".