يحتفي مجمع ساوث بانك للفنون في لندن بالمؤلف الموسيقي الانكليزي جون تافنر، في مهرجان عنوانه "ايقونات النور: مصادر الهام جون تافنر" يقدم أعمالاً مختارة له وأخرى تمثل مصادر الهامه اختارها تافنر ليسلط الضوء على التراث الموسيقي العالمي الذي بلور رؤيته الروحانية، وقد انعكست في مجموعة من المؤلفات الأبرز في الحركة الموسيقية البريطانية الكلاسيكية المعاصرة مثل The protecting veil وأخرى جعلت تافنر يلفت الاهتمام الى رؤيته ومفهومه للموسيقى وللتراث الموسيقي العالمي. وخلال ثلاثة أسابيع بين 1 و22 تشرين الأول أوكتوبر الجاري ستحتضن قاعات المجمع: رويال فستيفال هول وكوين اليزابيث هول والبيرسيل روم، عروضاً لمجموعة كبيرة من الفنانين والفرق الموسيقية الشرقية والغربية التي تمثل في ما بينها ما يعنيه تافنر بمصطلح "التقاليد الموسيقية العظيمة"، والتي لا تقتصر على الموسيقى الكلاسيكية الغربية فقط، بل وتشمل ألوان الموسيقى الشرقية الروحانية، كنسية أو صوفية، وغير ذلك من تعابير تتصل جميعها بالروح وتؤدي الى الحقيقة. والى مسارح مجمع الفنون، وضع تافنر أناشيد خاصة ستقدم الى نزلاء سجن بنتونفيل في احدى ضواحي المدينة بمشاركة جوقة من هؤلاء النزلاء. وخلال هذه التظاهرة قدم الموسيقي الانكليزي مجموعة من المؤلفات الجديدة مثل Apokatastasis التي عزفت للمرة الأولى مساء أمس الأحد، أول أيام المهرجان على مسرح قاعة الملكة اليزابيث، وفي الوقت نفسه أمكن الاستماع الى أمسية أناشيد بيزنطية في "بيرسيل روم" بعد لمحة تاريخية وتعريفية عن الموسيقى اليونانية الأورثوذكسية. يذكر ان التراث الغنائي يشكل مصدراً مهماً يستلهم منه تافنر أفكاره الموسيقية منذ تحوله الى الكنيسة الشرقية، مطلع السبعينات. ومن أعماله الغنائية يمكن الاستماع الى all and Resurrection مساء الأربعاء 4 الجاري، تؤديها أوركسترا لندن السيمفونية بمصاحبة السوبرانو باتريشيا روزاريو. أما مساء الجمعة 6 الجاري فخصصت أمسية للحديث عن أهمية هاندل لدى تافنر الذي سيروي في لقاء مع الجمهور عن العلاقة الخاصة التي تربطه بهذا العبقري، بينما سيتحدث أعضاء من الأوركسترا عن أسلوب العزف والآلات المستعملة في تنفيذ مؤلفات الموسيقي الألماني. وفي الجزء الثاني تقدم الأوركسترا أعمالاً غنائية وآلية مختارة من تافنر. وبين الذين أثروا في تافنر وساهموا في بلورة منهجه الحالي سترافينسكي، وقد اختار الموسيقي الإنكليزي من أعماله Canticum Sacrum، وفي الأمسية نفسها ستصاحب الأوركسترا آلة التشيللو في تقديم أكثر أعمال تافنر شعبية The Protecting veil. ويشار أيضاً الى أمسية الأناشيد الصوفية للفنان الإيراني داود آزاد، مساء الاثنين 16/10/2000، ضمن عروض فنية عدة، غنائية وراقصة، فاتنة وروحانية للموسيقى الصوفية تحت عنوان "ايقونات النور"، في اشارة الى سعة أفق الفنان وعمق رؤيته الفنية الخالية من الشوائب والأحكام المسبقة. ومن أبرز الأعمال الجديدة لتافنر مغناة The Fool، وهي حكاية أخلاقية رمزية في اطار حديث، مهداة الى الممثل الكوميدي الانكليزي المعروف السير نورمان ويزدمان. وتعكس موسيقاها السلوكيات الغريبة العنيفة والتحولات الدراماتيكية للشخصية الرئيسية فيها. وستقدم المغناة على مسرح قاعة الملكة اليزابيث مساء 9 و10 الجاري. والفنان تافنر واحد من قلة سعت الى مناخات جديدة خارج الأطر التقليدية بحسب المفهوم العلمي للتطور الموسيقي الغربي، لكنه حرص على الاستمرار في التراث الكلاسيكي ضمن رؤية أكثر شمولية تأخذ في الاعتبار التقاليد الموسيقية للشعوب العريقة. وقد استطاع، بألحانه، أن يكسب اهتمام الأوساط الشعبية والفنية بعد تقديم مؤلف The protecting veil في مهرجان البرومز السنوي الموجه للفت اهتمام الأوساط الشعبية بالموسيقى الجادة. وانشغل النقاد في حينه بالمؤلف الجديد وكالوا له المديح، حتى ان بعضهم رأى أنه أجمل الأعمال الكلاسيكية المعاصرة. أما اقبال الجمهور فكان فوق العادة، وانعكس ذلك في أرقام المبيعات التي أوصلته الى المقدم في لائحة أشهر الألحان الكلاسيكية. والفنان تافنر معروف بغنائيته، حتى ان مقطوعاته الموسيقية الآلية لا تتعدى 20 في المئة من أعماله، لذلك يجد المستمع ان صوت التشيللو يرتل انغامه مقلداً صوت الإنسان، بارعاً في تمرير العاطفة كما في كل أعماله المستوحاة من الأناشيد البيزنطية. وتتجلى النزعة الروحانية في ألحان تافنر في وضوح، إذ يسمو في موسيقاه فوق الوجود المادي من دون زينة أو زخرفة فنية، متيحاً لموسيقاه حرية الانسياب الطبيعي ببساطة تسيطر على حواس المستمع. وفي أيلول سبتمبر 1997، اتسعت دائرة شهرة الفنان تافنر بعد أداء انشودة Song for Athene خلال جنازة الأميرة ديانا التي سلبت لب الملايين وأثارت الاهتمام حوله في شكل منقطع النظير، من جماهير بدأت تكتشف هذا المؤلف الموسيقي المتمرد على مفهوم النهضة الموسيقية الغربية، وابداعاته الأخرى ذات الصبغة الروحانية الطاغية على مفهومه للأشياء. وكشف تافنر موهبته الموسيقية الأصيلة والقادرة، منذ صغره، ببراعته في العزف على البيانو، ثم صقل موهبته بالدروس النظرية قبل الالتحاق بمعاهد الموسيقى التي أهلته للعمل في مجال الموسيقى كأول محترف في عائلة ارتبطت عبر الأجيال بممارستها الموسيقى، من طريق الهواية. أما والدته، وكانت تنتمي الى حركة دينية علمية تؤكد دور الروح في الكون المادي، فكان لها الأثر الكبير في منهجه وانسجامه لاحقاً مع التوجه العام في الحركة الموسيقية العالمية. فهو تعرف من طريق والدته، الى شيء من الموسيقى الهندية، ما ولد لديه رغبة في المزيد من المعرفة. وزرعت فيه بذور التأمل الذي أصبح منهجه على رغم ولعه، في مرحلة الشباب، بجوانب مادية عدة عشية تحوله الى الكنيسة الشرقية. الا ان بعض الأحداث والمواقف التي عرفها تافنر، صغيراً، جعلته يرى الى مستقبله المهني والفني بصيغته الراهنة. فهو كان محط اعجاب التلاميذ والأساتذة بارتجالاته في عوالم باخ وبيتهوفن وموزار، وفي تلك المرحلة شاهد عرض "الناي السحري" لموزار، فعلق في ذهنه الى حين كتابته أوبرا "ماري المصرية". لكن الموسيقى التي جعلته يحلم بالتأليف الموسيقي كانت Canticum Sacrum لسترافينسكي، وقد واجهت رد فعل عنيفاً من النقاد حين عرضها، لكنها سحرت ابن اا12 ربيعاً. ويجيء الاحتفاء به، في هذه التظاهرة، بعدما كرمت موسيقاه نهاية الألفية الماضية، وفي اليوم التالي بافتتاح الألفية الثالثة في كنيسة سان بول. ولم يأت اختيار موسيقى تافنر للعبور الى فجر الألفية الجديدة في احتفالات القبة في لندن من عبث. فنهجه الروحاني المنفتح على ثقافات الشعوب وتقاليدها العريقة المحافظة على نشأتها الطبيعية، هو بمثابة رؤية للذات من خلال معرفة الآخر في مرحلة أخذت النزعة المادية الأنانية في المجتمعات "المتقدمة" مداها بمقدار ابتعادها عن انتماءاتها الدينية - الروحانية. ويعبر نهج تافنر عن رغبة عارمة للأصوات الواعية في المجتمعات الغربية الداعية للعودة الى التقاليد والأسس التي تشكل العائلة ودور العبادة محورها في نسيج التواصل والتآخي، للاقتراب من النموذج الذي يساوي بين الروح والعقل والقلب وبالتالي ادراك القيمة الحقيقية للأشياء. والفنان تافنر يفسر الاقبال على أمسياته وابداعاته من الأوساط الشعبية والفنية على أنه نتاج اكتشافه التقاليد، ما أحدث هذا التواصل بين رسالته والمستمع في شكل عام. وهو يرى ان التطور لذاته ليس له أي قيمة. والموسيقى، وهي أرقى ألوان الإبداع والخلق، كانت ولا تزال مرآة للتطورات الحاصلة في أي مجتمع كان. ولو أخذنا على سبيل المثال الإطار السيمفوني الذي عكس التطور والطموح نحو دولة المؤسسات والديموقراطية في أوروبا، لوجدنا النزعة الروحانية التأملية عند تافنر تلبي الحاجة الملحة والطموح للعودة الى الحقيقة المجردة. وهو يقول "يجب أن تكون الموسيقى سهلة الفهم والاستيعاب من دون الحاجة الى قراءة الكتب والمجلدات لتوضيح مضمونها وفلسفتها". وقد وجد تافنر ضالته في الابتعاد عن مفهوم التطور والنهضة في أوروبا الغربية وبالتحول الى عوالم الروح الشرقية البريئة، ليكتشف ما أطلق عليه مصطلح التقاليد العظيمة. وهو يقول "المفهوم العام للتقاليد الموسيقية العظيمة يقتصر على روائع الموسيقى الكلاسيكية لمؤلفين مثل باخ وموزار وهايدن وبيتهوفن وغيرهم. وهذا عكس ما أعنيه تماماً عندما أقول: التقاليد الموسيقية العظيمة".