بعدما انكسر عودها، بدأت حكايتها مع صناعة الأعواد فباتت الشابة الوحيدة في لبنان والشرق التي تصنع آلة العود باحترافٍ تام ودقة عالية. انها كارول الراعي التي احبّت العزف منذ كانت صغيرة، فالتجأت حينها الى آلة العود الموجودة في منزل أهلها منذ ثمانين عاماً، ثم توجهت الى فؤاد عوّاد كي يعلمها العزف وأصول الغناء، خصوصاً انها تتمتع بصوتٍ جميل... وكانت لحظة انكسار عودها بيد احد الأصدقاء لحظة ابداع، ومعها بدأت الحكاية: تقول كارول: لطالما أحببت العزف على العود ولطالما أحببت الغناء، لكن لا شك ان مسألة الصناعة مختلفة أي، يجب ان أكون مرتاحة جداً، مرتاحة اليدين كي أبدأ العمل. وبالعودة الى الفترة التي بدأت بها هذا العمل بالذات، كان في منزلنا آلة قديمة تعود الى جدي وكنت أراقب دائماً هذه الآلة كما كنت أعزف عليها من حينٍ الى آخر، وعندما أنهيت مرحلتي الدراسية توجهت الى جامعة الروح القدس في الكسليك وتخصصت سنتين في الهندسة الداخلية، لم أجد نفسي في هذا الاختصاص، بل كنت أشعر انه لديّ طموحات اخرى هي الموسيقى، فانتقلت الى فرع آخر داخل الجامعة فنصحني استاذي حينها بدراسة الموسيقى فدرست على الاستاذ فؤاد عواد فقال: "إنني اذا أردت الغناء يجب ان تكون الى جانبي آلة شرقية". واقترح عليّ القانون أو الكمنجة أو العود. وقلت في نفسي ان آلة القانون ليست مناسبة كثيراً للغناء كما أنه من الصعب التحكم بالكمنجة، فاخترت آلة العود التي كانت موجودة أصلاً في منزلنا، فتعملت كيفية العزف كما تعلمت أصول الغناء الشرقي. وتتابع كارول قائلة: انكسر عودي بيد الزميل شربل روحانا وذلك اثناء التمارين التي كنا نقوم بها معاً، فتألمت كثيراً لذلك أصلحته بنفسي فغيرت أوتاره ودهنته وأعجب كل من رآه معتبراً انه جديد. ومنذ العام 1986 بدأت اصلح أعواد زملائي في الجامعة. وفي العام 1994 تعرفت الى ريمون طايع الذي يصنع الأعواد فنصحني ببدء مرحلة الصناعة وعلمني كيف أصنع أول طاسة ومعها كانت البداية. تضيف كارول: الخبرة لها التأثير الكبير في هذا المجال، أي كوني كنت عازفة، فهذا الأمر جعلني اعرف جيداً حاجة كل عازف أو كل فنان لهذه الآلة، كما كنت افرح جداً عندما كان يوجه اليّ الاستاذ ابراهيم حبيقة، وهو صديق والدي، أجمل الكلام كلما انهيت صناعة العود، ولقد ذهل مرات عدة لمدى الدقة التي اعتمدها في صناعتي، ولا ننسى ان محمد عبدالوهاب سبق ان وقال عن الاستاذ حبيقة "انه عازف العود الأول في لبنان". وعن كونها فتاة تصنع هذه الآلة تقول كارول: يفاجأ البعض كوني فتاة وقد استخف بي البعض الآخر، لكن، عندما اطلعوا على المشغل الخاص بي وعندما راقبوني اثناء العمل ذهلوا فعلاً. وتابعت: وصلت اعوادي الى استراليا، وليبيا والسعودية، كما اختار من اعوادي عدد كبير من الفنانين... ومنذ ايام اتصل بي احد الأشخاص من لندن طالباً ان ارسل له عوداً لكنني لم أفعل لأنني مقتنعة جداً انه على كل شخص ان يسمع صوت العود قبل ان يشتريه. صناعة العود الواحد تتطلب شهراً كاملاً، وتحرص كارول على سرية المهنة، وقالت ممازحةً: هل من المعقول ان أعلم سر هذه الصناعة لغيري؟ ثم أوردت كارول مسألة الصناعة منذ البداية حتى النهاية، قالت: أولاً أقوم بتفصيل الخشب في "المنشرة"، أما الأمور الدقيقة الأخرى فأقوم بها بمفردي وبيدي، ومنذ العام 1994 بدأت اشتري كل ما أحتاج اليه بهدف صناعة عود واحد، وفي الحقيقة لم أكن أعرف أبداً انني سأصل الى هذا الحد، والحمدالله لديّ اليوم العدة الكاملة التي تخولني صناعة أعواد كثيرة. وتضيف: عندما اشتري الخشب، أفصله في المنشرة وفق قياسات معينة، وفيما يتعلق بأنواع الخشب أختار خشب الجوز والموغونو والزين والياليساندر والشوح للوجه والورد الذي لم استعمله بعد. ابدأ بتوزيع الخشب في أماكن معينة، ثم احضر البناجق ومربط الأوتار، فهذه الأمور تسهل مراحل الصناعة، ثم أطوي الخشب كي يأخذ شكله واتفقده باستمرار وأحياناً أترك الخشب سنة كاملة كي لا يتأثر بالمناخ ابداً. ثم أركزّ الكوز والكعب على القالب وابردهما كي يأخذا موقعهما، ثم أعلم الخشبات المطوية وأنشرها وأقطعها على الفارة كي تصبح جيدة، الى ان انتقل بعد ذلك الى جمع الريش ال15 وألصقها بالغراء الساخن وهي مادة لاصقة، وهنا تكون الطاسة قد انتهت فأنزعها عن القالب وأنزع عنها الغراء الزاىد وأبردها من الخارج كي تصبح ناعمة، ثم أحضر خشبة الزند وأتبعها للطاسة وأتبع البنجق لها أيضاً. هنا أبدأ بتحضير خشب الوجه، أحفّه وأرققه وأطعمه من خلال زخرفات أو Mosaique ثم أركب خشبة طويلة تثبت الوجه بالطاسة، وبعد ذلك أضع مربط الأوتار ثم القشرة وأكون هنا قد فتحت القمرية، ثم أحفّ كل العود بورق الزجاج وأحضره للدهان الذي يتم إما بواسطة الكاماليكا أو بواسطة اللاكار Compresseur، وبعدما انتهي من صناعته، أركب له المفاتيح ثم الأوتار، وبعد ذلك اجرب صوته الذي لا شك انه يتحسّن مع الوقت، وأحياناً أنوع في اختيار الأخشاب وذلك للتزيين. وتقول كارول في هذا المجال: "كلما صنعت عوداً أشعر بقيمة معنوية كبيرة وأنا لا اتبع هذه الصناعة كتجارة أبداً، وصحيح أنني أصنع حوالى 15 عوداً في السنة وهذا يتطلب العمل المتواصل، لكنني أفرح جداً عندما أرى هذه الكمية أمامي، فآلة العود تعبر عن التراث وهي ثروة فنية كبيرة، خصوصاً اذا كانت مصنوعة بطريقة سليمة واذا كان صوتها جميلاً أيضاً". وختمت كارول الراعي تقول: أهم وأجمل اللحظات أشعر بها بعد الانتهاء من صناعة آلة العود والعزف عليه، فهذه الآلة أصبحت جزءاً مني الى درجة انه لا يمكنني ان أخلد أبداً الى النوم من دون ان أعزف ولو قليلاً، وأحياناً تقول أمي انه لا يجب ان أعزف خلال الليل لأن الصوت يعلو مع صمت الليل، لكنني واثقة جداً ان الجيران الذين يحيطون بنا سعداء "بسماع صوت هذه الآلة وهم يتمنون النوم على صوتها". ومع تمنيات كارول بإقامة معرض خاص بها تزينه آلات العود التي تصنعها بيديها الناعمتين يبقى القول ان هذه الفتاة هي الوحيدة التي تصنع آلة العود كما قال فؤاد عواد والذي يضيق عنها قائلاً: "استطاعت كارول الراعي ان تصنع اجمل الأعواد في هذا الشرق صوتاً وصناعةً، وهي متميزة جداً كونها تتمتع أيضاً بصوتٍ رائع أيضاً".