تحدث الأقوال المتناثرة في أقوال الوزراء والمختصين، كما في متون التقارير، عن وقائع صحية يصعب وصفها بالمضيئة. ويمتد خيط العلاقة الوطيدة بين جسد الانسان والبيئة الاجتماعية - الاقتصادية، ليصل الى متفرق الملامح في هيئة العلل المقيمة أولاً في النظم والبنى المجتمعية، والتي تتسرب الى بيولوجيا البشر، مرضاً تلو آخر. ويعطي العراق نموذجاً عن تلك الترسيمة، لكنه نموذج غير وحيد! كانت آثار اتفاقات "غات" من المحاور الرئيسية في اجتماع الدورة ال47 لمنظمة الصحة العالمية - إقليم شرق المتوسط "أمرو"، إذ أنها تثير جدلاً واسع النطاق حيال آثارها المختلفة، وخصوصاً آثارها الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة في الدول النامية، وبينها دول إقليم شرق المتوسط. وأبدت هذه الدول قلقاً كبيراً من الآثار السلبية التي قد تتعرض لها، مثل المساس بسيادتها الوطنية عند تطبيق آليات التنفيذ المدرجة في اتفاقات منظمة التجارة العالمية، والارتفاع المتوقع في كلفة الأدوية والتكنولوجيات الصحية الجديدة، وضعف استفادة الدول النامية من هذه المستجدات. وأبدت منظمة الصحة العالمية والمكتب الاقليمي اهتماماً خاصاً بهذا الموضوع، فأجرت دراسات عنه، وكان موقفها الدعوة الى التفاعل الناجح بين الصحة العمومية والتجارة، وحتمية اتخاذ التدابير اللازمة لحماية مكونات الأدوية من الاستغلال التجاري، وتطبيق مبدأ التسعير التفضيلي في الدول الفقيرة، الى غير ذلك من الاجراءات التي تعكس الحرص على وضع مخاوف الدول النامية في الحسبان، وتؤكد الاهتمام بحماية مصالحها. ومن أبرز النقاط التي أثيرت في هذا الشأن أثناء الجلسات، تأكيد الحاجة الى تطوير المؤسسات على الصعد الوطني والاقليمي والعالمي، لإعداد ما يلزم من سياسات وخطط عمل تتجاوب مع أهمية الموضوع، واتخاذ تدابير عاجلة لمراجعة التشريعات الوطنية وتعديلها بما يفي بالتزامات كل بلد حيال اتفاقات منظمة التجارة العالمية، على أن تعزز منظمة الصحة العالمية جهودها الرامية الى توفير الدعم التقني للبلدان في هذا الصدد. وأوصى المجتمعون بضرورة بذل جهود وموارد كبيرة ليشارك "إقليم شرق المتوسط" في نشاطات البحث والتطوير في القضايا الفائقة الحداثة مثل البحث في الجينوم البشري. علاقة الأبصار مع الفقر وتدل البيانات المتوافرة عن الوضع في اقليم شرق المتوسط في ما يتعلق بالعمى على أن ثمة، على الأقل، خمسة ملايين ونصف مليون شخص من مكفوفي البصر. والى جانبهم ما بين 16 و17 مليوناً يعانون إعاقات بصرية. وأكثر الدول تضرراً بالعمى تلك ذات الكثافة السكانية العالية، مع قلة الدخل وضعف البنية الأساسية الصحية، اضافة الى الدول التي تعاني ويلات الحروب وآثار النزاعات الداخلية. ففي تلك الدول نجد أن العمى وضعف البصر ينتشران بنسب أعلى، مما هي عليه الحال في الدول الأخرى، مسبباتهما فيها أكثر تنوعاً. ويقدر أن أربعة ملايين ونصف المليون، أي 80 في المئة من المكفوفين، يعيشون في تسع من دول الإقليم. ولئن كان انتشار العمى والعدد الكلي لحالاته يقل في الدول الغنية في الاقليم، فإن تزايد أعداد المسنين أخذ يؤدي فيها الى زيادة عبء العمى، خصوصاً العمى الناجم عن الإصابة بالساد أو "كتاركت" Cataract. ويعتبر الساد مثالاً جيداً لحال مرضية يمكن علاجها في شكل ناجح، ويقدّر أنه السبب في نسبة تتفاوت بين نصف حالات العمى وثلاثة أرباعها في اقليم شرق المتوسط، إلا أن الخدمات المتوافرة الآن لا تزال عاجزة عن تلبية حاجات المعالجة الجراحية للساد. وفي الوقت نفسه، تظل مشكلة التراخوما القديمة ضاربة جذورها في عدد من دول الاقليم، ما يجعلها السبب الرئيسي الثاني للعمى فيها. وقد شكلت منظمة الصحة العالمية في السنوات الاخيرة تحالفاً يهدف الى التخلص من التراخوما في العالم كله، على أنه احدى الأولويات المهمة في إقليم شرق المتوسط. أما في الدول التي لا تزال تعاني مشكلة العمى النهري، مثل السودان واليمن، فالعلاج المسمى "ايفرمكتين" أصبح متوافراً، وإن كان من الضروري تحسين آليات توزيعه. وهذا يشكل تحدياً مهماً خصوصاً في جنوب السودان. ويسبب عوز الفيتامين أ الآن مقداراً كبيراً من القلق، لا لمجرد أنه يفضي في النهاية الى العمى، بل ولأنه يضر بالقدرة المناعية. لا يعتبر عمى الطفولة مشكلة تصيب عدداً كبيراً من الأطفال في الاقليم، لكنه لا بد من أن يعطى مع ذلك أولوية كبيرة، لأن الطفل الذي يصاب به، يمضي حياة طويلة وهو محروم نعمة البصر. وتتفاوت أسباب عمى الطفولة شدة وأهمية بحسب مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي في الدولة، إلا أننا في هذا الإقليم لا يمكن أن نغفل اسبابه الوراثية. وتركز معظم دول الإقليم، في معظمها ان لم تكن جميعاً، على ضرورة توفير تعليم جيد للجميع، لذا من الضروري معرفة الأطفال الذي يعانون مشكلات في البصر وتوفير نظارات طبية لهم، من طريق خدمات الصحة المدرسية، ليتمكنوا من الاستفادة، في شكل كامل، من الفرص التعليمية المتاحة لهم. كذلك فإن الشريحة السكانية التي تقف على عتبة الشيخوخة. أثواب السياسة في صنع المرض والوباء وعرض وزير الصحة العراقي الدكتور أوميد مدحت مبارك، أمام الحضور، تفاصيل معاناة الشعب العراقي وتدهور القطاع الصحي من جراء الحصار. وأثار في هذا الصدد المشكلات المتعلقة بعدم تمكين السلطات الصحية من استخدام الموارد المتاحة. وتطرق الى الصعوبات الناجمة عن الحصار، مثل صعوبة التعامل مع النفايات الصحية والتخلص منها، والنقص الحاد في الأدوية على رغم ازدياد الحاجة اليها. وأشار مسؤولو المنظمة، على رغم المساهمة التي قدمها برنامج "النفط في مقابل الغذاء والدواء" في توفير كميات من الأدوات والأجهزة الطبية والمواد المختبرية، الى أن ذلك لا يكفي لتقديم الخدمات الصحية اللازمة. فالبرنامج، في تقويم المنظمة، لا يوفر الموارد اللازمة لإعادة تأهيل المؤسسات الصحية وتصليح شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي. وأضاف مسؤولو المنظمة أن تعطيل لجنة العقوبات الموافقة على الكثير من العقود المبرمة، يؤدي الى النقص الشديد في الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية الضرورية. وكانت لوزير الصحة العراقي وجهة نظر أخرى في مسألة "النفط في مقابل الغذاء والدواء". فهو في حديثه الى "الحياة" يصفه بأنه برنامج "النفط في مقابل التعويضات للآخرين". فوزارة الصحة العراقية - المسؤولة عن استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية 0 لم تحصل خلال السنوات الأربع الماضية إلا على 48 في المئة من العقود التي تعاقدت عليها في إطار مذكرة التفاهم. ويتهم مبارك مندوبي أميركا وبريطانيا في لجنة المقاطعة 661 بعرقلة العقود، بل بمنع اكتمال وصول محتويات الأدوية، ما يمنع من الافادة من استخدامها، ومن أبرزها أدوية علاج أمراض السرطان والخيوط الجراحية وحضانات الأطفال وأكياس الدم. وتسأله "الحياة" هل ما زال في مقدور وزارة الصحة العراقية التخطيط وإجراء الدراسات تحت وطأة الحصار الذي تستنزف سبل مواجهته الوقت والجهد، فيرد بأن لولا وجود خطة محكمة، لما استطاع العراق أن يقاوم الحصار والقصف اليومي الذي يتعرض له. وعن وضع برامج تدريب الأطباء والممرضات والعاملين في مجال الصحة، يقول إن المستشفيات التعليمية في العراق تتبع وزارة الصحة التي تتعاون مع وزارة التعليم العالي. إلا أنه ينتقد منع العراقيين من حضور المؤتمرات الدولية وإرسال البعثات الدراسية الى الخارج. ويشير الى امتداد آثار الحصار كذلك على منع أجهزة الاتصالات الهاتفية بسيارات الاسعاف، فضلاً عن أجهزة الكومبيوتر وغيرها من التقنيات الحديثة. ويرفض مبارك قصر تردي الوضع الصحي في العراق على الأطفال. لكنه يصفه بأنه "حال عامة". فالجميع - نساء وأطفالاً ورجالاً وشيوخاً وشباباً - متأثرون بمشكلات توفير مياه الشرب الصالحة والكهرباء المنظمة والتخلص من المخلفات ونفايات المستشفيات والصرف الصحي والتغذية. ويسأل: "إذا كانت المواد اللازمة للجراح متوافرة لإجراء جراحة، كيف يتصرف وسقف غرفة العمليات يرشح ماء من الصرف الصحي، إضافة الى توقف اجهزة التكييف عن العمل في ظل حرارة بغداد التي تصل الى 52 درجة مئوية صيفاً؟". يذكر أن نسبة الأطفال الخُدّج ارتفعت من 5،4 في المئة قبل الحصار الى 25 في المئة بعده. ويسأل وزير الصحة: هل يعني ذلك أن الطفل مريض؟ أم أن امه مريضة؟ أم أن هناك مشكلة حقيقية في البيئة؟ وتفيد المؤشرات كذلك الى أن معدل وفيات الرضع في العراق ارتفع من 25 بين كل ألف مولود عام 1990، الى 108 في الألف عام 1999. وارتفع معدل وفيات الأمهات من 7،11 لكل عشرة آلاف، الى 30. وتسأله "الحياة" هل هناك اتجاه الى تقليص عدد المواليد، اتقاء لحدوث مضاعفات في ظل تدهور الوضع الصحي والعناية اللازمة؟ فيرد بالنفي. ويقول: "نحن بلد كبير وغني، ونحتاج الى أيدٍ عاملة، وسياسة الدولة حتى قبل الحصار تشجع زيادة التعداد". يذكر أن نسبة نمو السكان في العراق بلغت 6،3 في المئة قبل الحصار، وانخفضت الى ما بين 4،2 و6،2 في المئة الآن. واحتلت حمى الوادي المتصدع Rift Valley Fever حيزاً كبيراً في اجتماعات اقليم منظمة الصحة العالمية لاقليم شرق المتوسط. وأدرج الموضوع على جدول الأعمال الطارئ للدورة لمناقشة الاجراءات العاجلة التي اتخذت لعلاج الظهور المفاجئ للفيروس في عدد من دوله. الظهور الأول لهذا الفيروس - الذي يصيب الحيوان والإنسان - كان في كينيا في افريقيا عام 1930. وظلت أوبئته محصورة في القارة الافريقية، خصوصاً في شمالها وفي جنوب الصحراء الكبرى. وينتقل في شكل أساسي عبر لدغات البعوض الحامل العدوى، وهي كثيرة. ثم ان احتمال وقوع أوبئة حيوانية أو بشرية من الحمى وارد إذا دخل الفيروس المسبب للمرض أي منطقة جديدة. وتمكن الوقاية من المرض، عبر برنامج مستمر لتطعيم الحيوانات. وهناك لقاح للاستعمال البشري، ولكن لم يرخص به بعد. أما وسائل الوقاية الأخرى فتشمل اتقاء لدغات البعوض، واستخدام مبيدات الحشرات. ويمكن شرب الحليب المغلي جيداً وتناول لحوم الحيوانات من دون أي خطر، ولا مانع من أداء العمرة أو الحج شرط التزام التعليمات الوقائية. ونشرت وزارة الصحة السعودية خطتها الوقائية لمكافحة المرض. وشملت في جانب منها الإجراءات الخاصة بتجهيز الجثث المتوفاة بمرض "حمى الوادي المتصدع". وتدعم منظمة الصحة العالمية السلطات الصحية الوطنية، خصوصاً في مجال إجراء الاستقصاءات الوبائية للأمراض المعدية ومكافحتها. يذكر أن هذا المرض انتشر في أماكن شاسعة من القارة الافريقية، إذ شُخص في أكثر من 24 من دولها. ومن أكبر موجاته تلك التي حدثت في مصر عام 1977 وأدت الى إصابة 200 ألف شخص توفى منهم 600، وتلتها أخرى عام 1993 نتج عنها ستة آلاف إصابة. ولم تسجل أوبئة في غرب افريقيا بخلاف وباء عام 1987 في موريتانيا. لكن دلائل وجود الفيروس تأكدت في دول عدة مثل الكاميرون وتوغو وبنين وساحل العاج وبوركينا فاسو والسنغال. وسجلت موجات عدة في شرق افريقيا، مثل كينيا عامي 1992 و1993، وأخطرها في غرب افريقيا حيث نفق عشرة آلاف رأس من الضأن، وأصيب 20 ألف شخص. وتؤدي الظروف البيئية والمناخية مثل سقوط الأمطار والفيضانات وإنشاء السدود دوراً في اطلاق المرض إذ ينجم عنها تكاثر البعوض الناقل للمرض. وصرح المشرف العام على إدارة الصحة الدولية في وزارة الصحة السعودية السيد حسني بن محمود الفاخري الى "الحياة" أن سقوط الأمطار الغزيرة في منطقة جيزان، وهي معرضة أيضاً لارتفاع نسبة الرطوبة، ساعد في ارتفاع نسب الإصابة بالمرض. وأضاف أن تهريب الأغنام عبر الحدود كان من العوامل التي أدت الى ظهور المرض في السعودية. وأكدت مصادر في المنظمة أن الاتفاق الكامل بين السعودية واليمن على إجراء تحقيق مشترك في شأن مواجهة تفشي هذا الوباء، من شأنه أن يسهم في سرعة درئه. ويذكر أن خبير "حمى الوادي المتصدع" في منظمة الصحة العالمية الدكتور راي آرثر يعمل مع حكومتي البلدين في هذا المجال.