الناس في حال ذهول واستغراب. أكثر الناس مطمئن الى أننا، كعرب، لسنا سيئين الى الدرجة التي تبرر ما وصلنا اليه. فقد تحصلت أمم وشعوب على انصبة من القوة ولم تكن تملك ما نملكه من قدرة بشرية مدربة ومتعلمة ومن قدرات مالية وعرفت كيف تستثمرها. أما نحن فنبدو كما لو كان بيننا وبين القوة بكل أنواعها خصام. وأكثر الناس مدرك بأن لا بد في الأمر ما يثير الشكوك، ويطرح للتأمل والتقصي مسائل من نوع سوء النيات وقلة الدراية وفساد الذمم وهجرة النخب المثقفة الى عوالم "العولمة"، وهي عوالم حديثة الاكتشاف، شديدة الإبهار، زاخرة بصنوف الغوايات والاغراءات، وعندها، أي عند تلك العوالم، قد تتغير الولاءات والانتماءات والاهتمامات. هل لهذه المقدمة علاقة بالاتفاق او المذكرة التي جرى التوقيع عليها في واشنطن؟ نعم توجد علاقة، ولكن ليست مباشرة. بمعنى ان المذكرة في حد ذاتها، أي بما احتوته من بنود كريمة او مهينة لم تكن وراء هذه المقدمة. ومع ذلك توجد علاقة غير مباشرة مع المذكرة، وما سبقها من مفاوضات، ومكوكيات، وتهريج باسم التكتيك. وبعد التوقيع حدثت تطورات لفتت النظر: حدث مثلاً ان الحكومة الاميركية لم تتأخر هذه المرة في ممارسة الضغط على معظم الحكومات العربية لتؤيد المذكرة، او على الاقل لتمتنع عن انتقادها. وكان الضغط متوقعاً، فالمذكرة لم تكن، أو هي ليست، مذكرة خاصة بالمسار الفلسطيني، خصوصاً في ما يتعلق بالمعارضة. الهدف هذه المرة هو كل المعارضة، بدءاً بالمقاومة الفلسطينية ومروراً بالسياسات والحكومات والتنظيمات "المعارضة" كافة، وكذلك المترددة في التأييد، والحريصة لسبب أو لآخر على حقوق الفلسطينيين، والعنيدة في رفض اسرائيل، او على الاقل في رفض التعامل معها. وبالفعل خرجت من معظم العواصم العربية عبارات التأييد - وإن بتحفظ - للمذكرة/ الاتفاق. لم يكن خافياً، خصوصاً على الاميركيين ان صياغات التأييد خلت من الحماسة المطلوبة اميركياً. وقد يقول قائل، وقيلت فعلاً، إن بعض الحكومات كان راضياً فعلاً عما توصل اليه الاميركيون والاسرائيليون والفلسطينيون، ولكن لم يكن مناسباً له التعبير عن التأييد المطلوب بحماسة تفضح هذا الرضى، أما لماذا الرضى؟ فالقائل نفسه يظن أن بعض العرب يحلم بأن يستيقظ يوماً فلا يجد قضية فلسطينية ولا صراعاً عربياً - اسرائيلياً. وككل الاحلام الهانئة لا يوجد في هذا الحلم أي تصور بائس وصعب، أو أي حق مغتصب وضائع. المهم ان يتحقق الحلم. ولا يعني هذا بأي حال أن بعض العرب، الذي يحلم بهذا الحلم، يتمنى تحقيقه بأي شكل وبأي ثمن. كما لا يعني ايضاً انه يتمنى لو استيقظ من نومه واكتشف أن لا قضية فلسطينية موجودة لتعكر يومه وعلاقته بأميركا أو بإسرائيل او بكليهما معاً. ولكن إذا اكتشف في الوقت نفسه ان الحقوق والاراضي والاماني التي فقدها الفلسطينيون خلال نومه كانت باهظة، لأصابه الاكتئاب ولانقلب الحلم النهائي الجميل كابوساً ثقيلاً مزعجاً. ولكن ليس كل العرب هذا النفر، ولذلك كانت علامات الاستفهام والتعجب. أم أنهم كلهم هذا النفر؟ احتار الناس! قال أحد القادة الفلسطينيين ما معناه ان العرب مسؤولون عن هذه المذكرة التعيسة التي وقعها عرب آخرون في واشنطن، فقد اوصلوا المفاوضين الفلسطينيين الى ما وصلوا اليه عندما رفضوا كل النداءات المتكررة لرئيس السلطة الفلسطينية لعقد مؤتمر قمة عربية. ولكي يخفف هذا المسؤول الفلسطيني من وقع المسؤولية قال إن الاميركيين كانوا يضغطون لمنع انعقاد القمة العربية! المعنى هنا واضح. مرة اخرى يتسبب العرب في "كارثة" للفلسطينيين، أو مرة اخرى يضطر الفلسطينيون لتقديم تنازلات لأن العرب لم يقفوا الى جانبهم، والعرب لم يقفوا إلى جانبهم لأن الهيمنة الخارجية لم تسمح لهم. اما اكثر عواصم العرب التي قالت: لقد فعلنا ونفذنا وما زلنا نفعل وننفذ ما يطلبه الفلسطينيون. قال مسؤولون عرب إن الفلسطينيين طلبوا منا أن نتمهل في الهرولة فتمهلنا، وقالت اطراف عربية اخرى إنها لم تكن راضية عما يفعله المفاوضون الفلسطينيون في حق بلادهم، ولكنها كتمت الغضب وعدم الرضى ولم تشاغب او تزايد. وفي نهاية الأمر خرجت غالبية الحكومات العربية تقول إنها تؤيد ما يرتضيه المفاوضون الفلسطينيون لشعبهم وبلادهم، وهؤلاء ارتضوا ان يتنازلوا عن حقهم في اراض شاسعة، وان يتخلوا عن مبادئ رسخت في قرارات دولية ومؤتمرات كمدريد واتفاقات كأوسلو، وان يتعهدوا بتمزيق وثيقة "وجودهم" وحقوقهم وفي حضور وبشهادة الرئيس الاميركي... فتكتمل الشماتة! هذا وغيره ارتضوه، ونحن راضون عما ارتضوه. فهم أدرى بما يريدون ويريد شعبهم. ولكن في ما ارتضاه هؤلاء وأيدهم الآخرون كثير مما يدفع الى الغضب. وكثيرة هي المبررات التي يقدمها هؤلاء الآخرون. وكلنا حفظنا المبررات: أميركا مهيمنة ولا راد لإرادتها" واميركا واسرائيل يعاقبان بشراسة وبقسوة، انظر ما كان ممكنا أن يحدث لو جرت مفاوضات مزرعة "واي" ولم تكن سورية مشدودة - قبلها واثناءها - الى تداعيات انفجار متعمد ومفاجئ لقضية سورية - تركية قديمة، قضية لا جديد فيها إلا حاجة واشنطن واسرائيل، وربما واشنطن اكثر لتصعيد النزاع التركي السوري لتخفيف الضغط السوري على اسرائيل والفلسطينيين خلال المفاوضات. ولم يفت على المصريين هذه الهجمة الوحشية على استقرار مصر. وأقول وحشية لأنني لا اتصور عملاً اشد وحشية من إثارة فتنة طائفية في بلد من البلاد، ولا شيء يمكن ان يشغل مصر وقيادتها والمعارضة فيها عن قضية أمن خارجي واستقرار اقليمي الا قضية الفتنة الطائفية. يعرفون هذا الأمر في واشنطن، وتعرفه اسرائيل، ولم يستطع الرئيس المصري اخفاء حقيقة شعوره تجاه هذا الامر حين اتهم اسرائيل، او كاد، وترك لغيره استنكار استمرار الكونغرس الاميركي في سياساته المناهضة للاستقرار السياسي في مصر، واستمرار الدور الذي تلعبه اجهزة اميركية اخرى في إثارة المصريين بعضهم ضد بعض، واثارتهم ضد بقية العرب، واثارة عرب بعينهم ضد حكومة مصر. ولكن ليست كل الخطوط مستقيمة او واضحة على هذا النحو. فالانطباع عند عدد من الذين انهمكوا في تحليل اهداف وثيقة "واي" هو ان ما بدأ في قمة شرم الشيخ خطة متواضعة لحماية شمعون بيريز ودعم حكومة حزب العمل ومسيرة السلام، اصبح بعد "واي" خطة طموحة للقضاء على كل اشكال المعارضة وليس فقط المقاومة في المنطقة. واعتقد - كما يعتقد كثيرون - ان الديموقراطية وحقوق الانسان والتعددية السياسية وغيرها من الاسلحة بالغة الذكاء التي استخدمت لترويض الحكومات العربية لفترة من الزمن، سيجري التضحية بها في سبيل القضاء كلياً على تعددية السياسات تجاه الصهيونية والتوسع الاسرائيلي وعنصرية الليكود. اعتقد انه بعد "واي" لن تكون هناك حاجة لجماعات تطلق على نفسها جماعات "أنصار السلام" سواء في دول عربية او في اسرائيل، إذ لن تكون هناك إلا سياسة واحدة، هي مجمل ما كانت تنادي به هذه الجماعات: التطبيع الكامل والسريع مع اسرائيل، وادانة كل اشكال المقاومة لإسرائيل واشكال المعارضة للسلطة الفلسطينية. ظلت هذه الجماعات تنادي باحترام الامر الواقع، وإن اخطأت هي نفسها في فهم الواقع الاسرائيلي، حتى جاء يوم تأكدت فيه من سخف هذا الواقع الذي لا يتوقف عند حد أو عند واقع واحد. لم يعد خافياً ولا سراً ان معظم الذين حرصوا على ضرورة احترام الامر الواقع كشرط للحصول على سلام واقعي فقدوا الثقة، فقد سقط بعضهم ضحية هذا الواقع المتدني دائماً بسبب المبالغة التي يمارسونها - ويمارسها احياناً عدد من السياسيين والمفكرين العرب - عندما يتعاملون مع الواقع. لقد صنعت اسرائيل واقعاً جديداً جعل الواقع السابق - الذي نشأت فيه جماعات انصار السلام - يبدو سخيفاً بل ودافعاً للسخرية. لقد انتصر في "واي" دعاة السلام الاسرائيلي ولم تعد اسرائيل ولا السلطة الفلسطينية بحاجة الى نشطاء سلام وحركات سلام. اسرائيل كلها - باستثناء مئات او حتى ألوف من المتطرفين اليهود - تؤيد سلام نتانياهو. لا احد في اسرائيل، لا في حزب العمل ولا في اي حزب آخر، مستعد لان ينشط من اجل سلام آخر غير هذا السلام الذي فرضه نتانياهو. اسرائيل كلها، ومعها دول وجماعات وافراد، قامت بتعريف العدو. هذا العدو ليس في فلسطين وحدها، وليس المتدينون الاسلاميون وحدهم، وليس المقاومة المسلحة في الداخل أو في الخارج. العدو هو كل المعارضين للسلام الاسرائيلي. إن ما تحقق على ايدي نتانياهو في "واي"، واعلن المفاوض الفلسطيني انه شريك فيه، هو إفراز جديد من افرازات سياسات خاطئة قامت على المبالغة في الركوع أمام الواقع. فقد نجح نتانياهو وشركاؤه في صنع، ثم فرض، واقع وهمي وصورة لسلام قسري مستند فقط الى هذا الواقع. الواقع والواقعية ليسا صنمين، نسلم أمامهما ونستسلم لهما. الواقعية مؤشر إن تدنيت اليه أخذك معه الى واقع أسوأ فأسوأ، وإن عاندته وتقويت عليه قد يعود فيرتفع اليك. قبل "واي" كان المؤشر متدنياً، وفي "واي" لم نعاند بل انحنينا لنتدنى نحو واقع جديد وواقعية مفرطة. والواقعية المفرطة ليست اكثر من غواية تحرض على الضعف او الاستضعاف. وبالممارسة تتحول الغواية الى رسالة، وللرسالة مبشرون يسعون لتصبح الرسالة سياسة ومبادئ. في كل ركن عربي ستجد من يقول: هذا هو ما نستحق. ولكن في كل ركن عربي ستجد ايضاً من يقول: ليس هذا ما نستحق، ولا يجوز ان نستسلم لواقع بعضه وهمي وكله نستطيع تغييره. وستجد من يدعو لانهاء الخصومة الناشبة بين العرب والقوة تمهيداً لتغيير الواقع. * كاتب مصري