المستقبل أفق واسع، وكل من الأفراد والجماعات والدول يحاول ثقب أستاره، واكتشاف ملامحه، فمن ارتاح في الحاضر، يخشى أن يتحول الإقبال إلى إدبار، ومن يشكو الحاضر يتطلع إلى الخلاص وللناس طرق شتى، في توقع المستقبل، فمنهم من يتوقع أحداثه من خلال الكهانة والتنجيم والسحر، ومنهم من يتوقعها من خلال أحلام اليقظة أو المنام، ومنهم من يتوقعها عبر الحدس والإلهام. وهناك بشر يتركون الأمور تجري من دون توقع ولا حسبان، في استسلام وإحجام، ويعتبرون التفكير المستقبلي نزعة تدل على ضعف الإيمان، وقد صورت ذلك مقطوعة شعرية، قديمة التجذر في الذهن الجمعي العربي الإسلامي: دع المقادير تجري في أعنتها، ولا تبيتن إلا خالي البال ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال وآخرون يوطنون النفوس على تقبل الفواجع، لأن من طبيعة الزمن - كما يقولون - أن يفرق كل اجتماع، وأن يهدم كل سعادة، وليس للناس من ذلك مفر، وليس لهم شأن في دفعه أو منعه، فعليهم إذاً توطين النفوس، على الاستسلام للكوارث والبلايا، كما قيل : دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً بما فعل القضاء ولا تجزع لحادثة الليالي فليس لحادث الدنيا انتهاء وهذه النزعات سكونية أمام حركة الحياة، تدل على غيبة الوعي والرأي، في الثقافة الاجتماعية العربية، وفقدان التنظيم والتخطيط، وعجز الأفراد والمجتمعات، عن فهم طبيعة الحياة، وإدراك سنن الله الاجتماعية، التي دعاهم الله سبحانه وتعالى، إلى تطويع ما يتطوع منها، ومغالبة ما يمكن مغالبته، وانتهاب فرصها، لأن التخطيط والتنظيم، هو أساس العمل الصالح الناجح، الذي أمر الله به عباده، فقال "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم" التوبة:105. وهذه الروح اللاعقلانية من أعظم ما ابتلينا به نحن المسلمين، منذ عصور التخلف والركود. ولا تكاد تقرأ ديوان شاعر، ولا مواعظ واعظ، ولا رواية مؤرخ، حتى تجد هذا النفس المستسلم، الذي يحمل الدهر وزر المصائب ويسبه، وكأن دور الإنسان هو انتظار الفواجع، والتأقلم مع الرزايا. حتى صار شعر الشكوى، من أوسع أبواب شعرنا القديم والوسيط والحديث، وصارت قصص الكآبة والرومنسية والعبثية كثرة كاثرة في ما أنشئ في اللغة العربية، وفي ما ترجم إليها أيضا. ومن الغريب أن تقدم هذه النزعات، الجبرية والعدمية والتشاؤمية، على أنها هي الحداثة الأدبية والفكرية والتجديد عند قوم من المعنيين بأدب العدمية والعبثية واللاأدرية، ومن المعنيين بالأدب الرومنسي والسوريالي، ومن الذين يستسهلون اقتراض الحضارة، ومن يتشدقون باسم الحداثة وما بعد الحداثة، وهم يجرون الناس إلى القدامة وماقبل القدامة، ويسوقون الناس إلى كهوف التخلف والغموض، والجبن والخور والجمود. والأغرب من ذلك أن تقدم في عباءة الأصالة العربية والإسلامية عند آخرين، وكأنها هي مقتضى الإيمان بقضاء الله وقدره، فيبرر الاستسلام والخمول، على أنه شعيرة من شعائر الإيمان، وكأن مقتضى الإيمان بالقدر، إنما هو الركود والهبوط، وترك التدبير والتفكير، والغفلة عن الحساب والتخطيط. وقد ساد هذا التفكير الخرافي والتجريدي والخيالي، في وجدان كثير من الناس، وسيطر على تصرفاتهم. وظهر تارة تحت لافتة التصوف، وتارة أخرى بعنوان الزهد والتعبد. وسرى واندس، حتى دخل في الاتجاهات المنتسبة إلى السنة والجماعة، وقدمت أفكار وقيم سلفية راكدة ساكنة، على أنها صفات الفرقة الناجية، من دون أن يفطن أهلها إلى أن النجاة في الدنيا لا تنفصل عن النجاة فى الآخرة. وتم ضرب السنن الاجتماعية، في عباءات السنن النبوية، فحولوا الدين الذي يولد النجاح في الدنيا والآخرة، إلى مولد لخراب الدنيا، تحت شعارات عمارة الآخرة، فتزاوج ركود الثقافة، مع ركود القيم الاجتماعية، فجنت الأمة ما زرع مثقفوها، من بذور الفكر الخامل والمريض. ولا يكاد كثير من مثقفينا وصفواتنا، يفتحون مظلات العقول، للشمس المشرقة والهواء الطلق، ليروا الأمم والجماعات الناهضة، ذوات العقول الثواقب، والأفهام النواضج، والهمم العوالي، وهي تبتكر وتنحت أساليب أخرى، في استشراف المستقبل، ودراسة ظواهره وملامحه، وإدراك نذره وبشائره، من خلال قراءة الخاطرة الاجتماعية والاقتصادية، وقياس الأشباه على النظائر، والإعداد الجيد، لما يمكن أن يجد من أحداث، من خلال خطط خمسينية ومئوية، لا خمسية وعشرية. وأكثر ما يعاني المسلمون اليوم، هو ترك الإعداد للمستقبل، الذي يجعلهم، كما ذكر الشاعر القديم في أبياته السابقة، ينتظرون تقلب الأيام، من دون أن يعدوا العدة لها، بل إنهم في أكثر الأحيان، يقعون في دائرة أوهام اليقظة، وتفصيل خارطة المستقبل، كما يحبون أن تكون، أو كما يتصورون أنها يجب أن تكون. ولا يكاد يتوافر إدراك المستقبل، من دون أوهام كهوف، إلا للأمم التي تستخدم العلم العقلاني التحليلي، في قياس المستقبل على الماضي. ولكل من الناس حق مطلق، في أن يحلم أحلام يقظة أو أحلام منام، فالأحلام حق من حقوق الإنسان، ولعلها الحق الوحيد، الذي تجمع دولنا العربية الرشيدة على ترك مصادرته، على شرط ترك الإعلان عنه أو تفسيره، إذا كان في أمر جلل. ولكن الحلم يبقى نافذة وجدانية، لاستشراف المستقبل، ولا تصدق هذه النافذة، إلا إذا كانت جزءاً من النبوة، تكشف أستار الغيب. وهذه النافذة الوجدانية، مسألة كرامة وإلهام، لا يجوز قبولها من غير نبي، لأن النبي يوحى إليه باليقظة، كما يوحى إليه بالمنام. أما دعوى بعض الناس الإلهام أو صدق الأحلام، فهي دعوى بغير دليل، فقد يكون الإلهام من الله، وقد يكون تجليات لهواجس النهار، تظهر في الظلام، وقد يكون من آثار إرباك المعدة بالطعام، وقد يكون من وسوسة الشيطان، فهذه الأمور إذاً، لا ينبغي الاعتماد عليها، وترك ثمرات العقول والأفهام. فالأحلام والإلهام، ليست مصدراً من مصادر التشريع، ولن تكون أساساً لفهم المستقبل أيضاً. وكثر من الناس يعتمد في استشراف المستقبل، على الأماني والتفاؤل، ولا ريب أن الأماني والتفاؤل شواحن جيدة، إذا كانت تقود إلى أفكار عملية، ينبثق منها الحراك والسعي. أما إذا كان الرجاء والتأمل مواقف نفسية وجدانية، لم تنبع من تقويم وتقدير، أصبح دورها سلبياً انتظارياً، فانتظار المطر والبشرى، قد يكون انتظاراً بلا جدوى، ك"انتظار جودو"، في مسرحية بيكيت. وذلك خلل في طريقة التفكير، يساعد الإنسان على احتمال المأساة، التي لا حول له ولا قوة في دفعها، وهو يناسب حالة السجين والمريض الذي عجز الطب عن علاجه، اللذين يأملان الفرج، بين عشية وضحاها، فلو لم يأملا الخروج من دار البلاء كل صباح، لماتا من اليأس والاكتئاب، ولمثلهما قال الشاعر: منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى، وإن لا فقد عشنا بها زمناً رغدا أما المنى في الحياة الاجتماعية، التي لا تحدو الناس إلى القيام بأدوارهم، فهي خدائع تفضي إلى فواجع ، ولو عاش فيها الناس زمناً رغداً، فإنهم معرضون لأن يعيشوا مستقبلاً قاتماً بائساً. والتشاؤم موقف نفسي آخر، يحول الناس إلى دمى تتدحرج في دوامة الأيام، لا إرادة لها ولا حراك، فهم دائماً في خوف مستمر، يتوقعون السوء، ولكنهم لا يبدون حيوية ولا مبادرة، تدفع السوء أو تقلل من خطره، وذلك شر آخر يقع فيه كثر من الناس. ولا قيمة لتفاؤل ولا تشاؤم، إذا لم يكونا موقفين ناتجين من تحليل ثاقب للأحداث، يعتمد المعلومات، ويحسن قراءة المؤشرات، ويستعد للمتغيرات، كما يستعد الفلاحون لمواسم الزرع والغرس، وكما يستعد البدو، لمواسم الغيث والقحط، وكما يستعد القاطنون في الوادي، لقدوم السيل الجارف، وهبوب العواصف. واستكشاف المستقبل، محاولة للرؤية من خلال الضباب، وتدني مستوى الرؤية، يقدم كل من الناس فيه رأيه وتوقعه، ويطرح أسئلته، وليس من اللازم أن يوفق للصواب، ولكن من المناسب إثارة السؤال، فالسؤال ينبثق منه أحيانا الجواب، أو هو طريق يوصل في أحيان أخرى إلى الصواب. وهو نوع من السلوك الناضج، الذي يتجاوب مع العمل الناجح، كما قال القائل: "اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً"، هذا على مستوى الأفراد. أما على مستوى الجماعات والأمم، فينبغي أن يعمل الناس لآخرتهم ودنياهم معاً، وكأنهم سيعيشون أبداً، لكي يغرس الأجداد للأحفاد، ويبني الآباء للأولاد، وتخطط الأمم والدول للأجيال القادمة، كي لا تكون عرضة لمزيد من الإذعان والانتهاك الحضاري، فلا تبقى لها عزة في الدنيا، ولا سعادة في الآخرة. فالإيمان بالقدر يقتضي إذاً، أن يستشرف الناس أحداث المستقبل، فإن كان القدر حدثاً كونياً، لا طاقة لهم في دفعه أو منعه، أعدوا له العدة، كما يستعد البدو على أقل تقدير، عندما يرون البروق ويسمعون الرعود، وبذلك يقل حجم الكارثة. وإن كان قدراً اجتماعياً، يمكن المشاركة في صنعه، أو يمكن التصرف في أحداثه، أو تحديد مسارها، تصرفوا كما يتصرف الفلاحون، في نوعية الثمار وكميتها، وأحياناً في وقتها، بأسباب من العلم الثاقب، وأسباب من الجد والاجتهاد، فالمستقبل هو غراس الماضي، وبينهما رباط السبب النتيجة، ولذلك فإن "من جد وجد، ومن زرع حصد". فالاستسلام لله، يناقض الاستسلام للكوارث، لأنه أعظم دافع وحافز لدفع الفواجع. لأن الاستسلام للكوارث وأد للنفس وتحقير لها، عن النهوض بدورها، ولذلك اعتبر في القرآن ضلالاً، قال تعالى على لسان إبراهيم "قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون" الحجر: 56، بل إن القرآن اعتبر اليأس من فرج الله كفراً أيضاً، قال تعالى على لسان يعقوب "ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" يوسف: 87. اللهم لا تجعلنا من الظالمين، الذين يضعون أنفسهم في خانة المظلومين، ولا من الضالين الذين يحسبون أنهم من المهتدين. أزمة بصيرة وإرادة؟ هل نحتاج إلى مقلتي الزرقاء، لكي نرى ما يلوح من بعيد؟ وهل نحتاج إلى منظار، لكي نرى الهلال حين يحول دونه الغيم والضباب؟ لن نحتاج إلى ذلك لو ملكناه، ولكننا نحتاج إلى معرفة وقائع الحاضر، لنتنبأ بوقائع المستقبل، وإذا حاولنا وهي محاولة خطرة على كل حال، ولكن ترك المحاولة أخطر، فقد نجد ثلاث ظواهر، في المجال الاجتماعي العربي العام: الأولى: ستزداد تقوقعاً وانهزاماً، تلك الاتجاهات الساكنة الراكدة، وستتهاوى منظوماتها،التي لا تتواكب مع روح العصر، سواء ألبست هذه المحافظة جلباب الدين، أو مسوح الوطنية، أو لافتة الخصوصية الثقافية. فالتيارات المحافظة السلفية، ماتت دماغياً أو هي تحتضر، لأنها ركنت إلى تقليد الفكر العباسي والمماليكي، وإن قدمته باسم السنة تارة، وباسم الأصالة والهوية تارة، وبالمحافظة على خصوصية التأخر تارة ثالثة أخرى، ستتهاوى تباعاً وتتداعى، لأنها لم تستطع أن تقدم حلولاً مستقبلية، للتحدي الحضاري القائم والقادم. فالحداثة الأوروبية ستصفع كل منظومة، لا تفكر تفكيراً مستقبلياً ثاقباً، يعتمد على الرؤية الموضوعية، والمبادرة والجرأة وإرادة النجاح. وستهد على كل معتزل صومعته، مهما احتمى بأسوار الدين، أو الخصوصية الثقافية، ما لم يقدم له الدين أو الخصوصية، مفاتيح الدخول إلى نادي النجوم. الثانية: سيتهاوى تيار العنف الانتحاري، الذي جسدت به بعض الحركات في الدول الإسلامية، تجارب المقامرة في العمل الإسلامي، وسواء أكانت هذه التيارات تجتهد اجتهاداً شرعياً سائغاً، من حيث الحكم النظري، أم غير سائغ، وسواء أكانت مندفعة أم مدفوعة، كل هذا كلام في النيات والمقاصد، والمبررات والدوافع، لكن المهم هو النتائج. والنتائج التي ظهرت هي أن الإسلام تضرَّر وتشوَّه، وتأخرت حركته وتعثرت. وكل عمل يؤدي إلى تشويه الشريعة، ليس من الشريعة. وكل عمل يصطدم بصخرة الواقع، ستتناثر شظاياه، من دون أثر ملموس. وقد تصب دول وجماعات، غربية أو شرقية، مزيداً من البنزين على النار، بشكل يجعل نار الفتنة متقدة، فلا تتفرغ الدول الإسلامية المبتلاة به، لمسيرة التقدم الحضاري، ولا ترشد هذه الجماعات المقامرة، فتدرك أن للعصر روحاً جديدة، تستدعي ابتكار وسائل إصلاحية عملية أخرى. وإذا استمر الغلاة في إنتاج فكر الغلو، انتجوا المواد المتفجرة، والنتيجة مزيد من الارتكاس والانتكاس يجعل التيارات المغالية في فهم الدين، تتجه بالنص الديني، إلى تأويل خارجي، يقوم على تكفير المسلمين، واستباحة أعراضهم ودمائهم وأموالهم. وهذا الاتجاه الفكري يفضي بها إلى النزعة الخارجية الأخرى، وهي القفز فوق سنن الله الاجتماعية. وفي كلتا النزعتين جهل، الأولى جهل بالشريعة، والثانية جهل بالطبيعة، نتج من غياب الحس السياسي والاجتماعي، في أسلوب التغيير والإصلاح. والاثنتان نزعتان متمردتان تمرداً سلبياً، أعاد إنتاجهما الخوارج القدماء، من التراث الجاهلي، وألبسوهما نصوص الدين، في فهم المجتمع، فجيروا تهور حماستهم، لعقلانية قوم آخرين. والخلاص من الجهل السياسي، الذي يقدم تحت راية الجهاد، يستدعي فهماً عميقاً لروح العصر، والنشرة الجوية والمناخ، ومعرفة جغرافية بالتضاريس. فالسائر من دون خارطة دقيقة، يضيع وقتاً وجهداً، وقد لا يصل إلا متأخراً، وقد لا يصل البَتَّة. الثالثة: سيزداد الصراع بين علمنة الاسلام، وأسلمة الحداثة، وستنجح الأسلمة إن قدر الإسلاميون على طرح فكر مستقبلي مستنير، تُبنى آلياته ونظرياته وبرامجه، على مفاهيم الكتاب والسنة، وانتجوا مزيداً من الفكر الذي يحتضن أسس التقدم الحضاري، وانتجوا البدائل، التي تقطع المسافة الحضارية، بين محطة التابع في الثرى، ومحطة المتبوع في الثريا. وإن لم تنشط الأسلمة لطرح المبادرات، وابتكار الحلول، واقتحام الأسوار، ونزع أستار المخبوء، واكتشاف المجهول، بشجاعة العقول والقلوب. فإن النتيجة في المستقبل المنظور، هي تكثيف وتسريع، لسيطرة الحضارة الأطلسية، أي أن العلمنة - محمولة فوق قطار الحداثة - آتية لا ريب فيها، لأن المجتمع على حد قول الشاعر: رأى البرق شامياً فحنَّ إلى الشرق ولو لاح غربياً لحنَّ إلى الغرب. * أكاديمي سعودي.