احتدام المعارك، ونزف الدماء، ووقوع القتلى والجرحى بالمئات، وتتابع مشاهد الاعتداءات الوحشية، تجعل من الصعب تقديم تحليل هادئ لمجريات الوضع في المناطق الفلسطينية في الضفة والقطاع، كما تجعل من الصعب الخروج بخلاصات سياسية ناضجة تضع الحدث في سياقه الحقيقي. وعلى رغم هذا، فإن تتالي الوقائع في أيامها الأولى يمكن أن يقودنا الى مجموعة من الملاحظات الأولية، لا يقلل من أهميتها أنها تحتاج الى المزيد من التأمل والإنضاج. فالانفجار الواسع الذي شهدته المناطق الفلسطينية، لا يعبر فقط عن حال احتقان وغضب مكبوت في النفوس، أو عن إحساس بالذل والمهانة جرى التنفيس عنه بهذه الصورة العنيفة، التي استهدفت الوجود الإسرائيلي. فإلى جانب هذا، يمكن قراءة ما وقع، وبهذا الزخم والاتساع، على أنه إعلان عن فشل ذريع لما كان يفترض بالمرحلة الانتقالية أن تحققه. إذ إن الوظيفة الأبرز لهذه المرحلة، كما عبر عنها الثنائي اسحق رابين وشمعون بيريز آنذاك، تأهيل ليس منظمة التحرير الفلسطينية فقط، بل مجمل الوضع الفلسطيني في الضفة والقطاع، ليصبح جاهزاً لتقبل موجبات السلام الإسرائيلي واستحقاقاته. وكانت هذه الموجبات والاستحقاقات شديدة الوضوح في مجموع الاتفاقات والبروتوكولات الناتجة من اتفاق إعلان المبادئ في 13/9/1993. ويمكن القول إنه بعد ثلاث انتفاضات رئيسية شهدتها مناطق السلطة الفلسطينية أيلول/ سبتمبر 1996، وأيار/ مايو 1998، والانتفاضة الحالية يفترض بالطرف الإسرائيلي أن يسلم بفشل خطة "التأهيل" المزدوجة المنظمة والشعب، ليس لانعدام الرغبة لدى الجانب الفلسطيني في السلام، بل لاستحالة أن يوفر السلام الإسرائيلي استقراراً، ليس للجانب الفلسطيني وحده بل كذلك للجانب الإسرائيلي أيضاً. إن أول الدروس، التي من واجب "حكماء" دولة إسرائيل استخلاصها من مجريات الأوضاع استحالة الحصول على السلام بمعناه الحقيقي في ظل الإصرار على إبقاء الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال، وإبقاء الاقتصاد الفلسطيني في حال تبعية مذلة للاقتصاد الإسرائيلي. كما أنه من المستحيل الوصول الى هدوء واستقرار في ظل دولة فلسطينية منقوصة الاستقلال والسيادة، تلد من رحم الاشتراطات الإسرائيلية، مزنرة بحزام من الألغام الموقوتة والقنابل المتفجرة. ولعل هذا الدرس - على بساطته - دليل على طبيعة أزمة السلام الإسرائيلي الذي يدعو في جانب من خطابه السياسي الى الفصل بين الشعبين اليهودي والفلسطيني، لكنه يصر، في جانب آخر من خطابه السياسي، على البقاء على تماس متفجر مع الشعب الفلسطيني من موقع المحتل المتسلط، مستنداً في تسلطه هذا الى تبريرات توراتية تاريخية هي أقرب الى الخرافات الأسطورية. والمشاهد المتكررة في الضفة والقطاع تشير للوهلة الأولى، إلى أن الاتفاق الذي ولد في أيلول من العام 1993، لوضع حد لانتفاضة الحجارة، انتهى بعد 7 سنوات كاملة من عمره الى إطلاق انتفاضة جديدة ومسلحة بالبنادق الى جانب الحجارة، وتيرة تصاعدها كانت أسرع بكثير مما كان يتوقعه حتى أكثر الأطراف حماسة لتجديد الانتفاضة واستئنافها. على صعيد آخر نلاحظ أن إجراءات الجيش الإسرائيلي في عهد باراك بدت أكثر وحشية من إجراءاته في مواجهة هبة النفق في عهد حكومة نتانياهو. ولا نعتقد أن قسوة الإجراءات الإسرائيلية هي مجرد ردود فعل عسكرية فرضها انفجار الغضب الفلسطيني. بل نرى أنها تندرج في سياق سياسي محدد له صلة مباشرة بالمباحثات التفاوضية بين الطرفين. فالفارق بين هبة البراق في زمن نتانياهو والانتفاضة الحالية في زمن باراك، أن الأولى انفجرت تحت سقف تطبيقات المرحلة الانتقالية، وهي تطبيقات تترك في سياقها العام هامشاً للمناورة لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لكونها في حد ذاتها انتقالية، يأمل كل طرف في تعويض "خسارته" آنذاك في تطبيقات المرحلة النهائية. بينما الانتفاضة الحالية انفجرت في ظل مباحثات الحل النهائي الدائرة منذ قمة كامب ديفيد حتى الآن. وهي مباحثات محكومة - كما هو معروف - بصوغ أميركي انحاز لمصلحة الجانب الإسرائيلي حين أعلن الرئيس بيل كلينتون أن باراك قدم ما يتوجب من تنازلات في المفاوضات وأن الخطوة التنازلية التالية منتظرة من ياسر عرفات، الأمر الذي وفر للجانب الإسرائيلي الغطاء السياسي الأميركي لإبداء التعنت والتمسك بمواقفه المتصلبة في مسائل المفاوضات القدس - المستوطنات - والحدود - اللاجئون - الأمن. ومما لا شك فيه أن جنرالات إسرائيل وقادتها ينظرون الى الانتفاضة الحالية على أنها تندرج في الإطار التفاوضي السياسي، وأن أي تراخٍ في الميدان العسكري يستدرج تراخياً مماثلاً في الميدان السياسي، وأن الحسم في الجانب السياسي يستلزم بالضرورة حسماً في الجانب العسكري لا يشوبه أي شكل من أشكال التردد. وهكذا يقف الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي في مجابهة يحاول فيها الأول كسر الصوغ الأميركي للعملية التفاوضية على أمل إخراجها من مراوحتها في المكان من دون نسفها أو تجاوزها حتى الآن، بينما يحاول الطرف الثاني تثبيتها من خلال تصعيد عسكري لجأت عبره قوات الاحتلال الى أسلحة كان البعض يظن أن التهديد بها لم يكن إلا مجرد تهويل. خطورة مثل هذه المجابهة - إن صح التقدير - أنها تضع الأزمة في مواجهة معادلة جديدة. فأي تراجع فلسطيني والقبول بالعودة الى ما كانت عليه الأوضاع قبل الانفجار في المسجد الأقصى، يعني إحكام الطوق الإسرائيلي - الأميركي على عنق المفاوض الفلسطيني. الأمر الذي يضعه أمام خيار شبه وحيد، هو إدامة الانتفاضة، عبر رسم افق سياسي واضح لها، يتجاوز حدود العملية التفاوضية الحالية، وما تمخضت عنه من "تفاهمات" في كامب ديفيد، لمصلحة عملية بديلة تستجيب في شروطها وآلياتها لما أسماه المجلس المركزي الفلسطيني بالثوابت الوطنية. ونعتقد أن مثل هذه النقلة كفيلة بترسيخ علامات الوحدة الفلسطينية ميدانياً وسياسياً وتفتح الباب عندئذ لضرورات إعلان السيادة على أرض الدولة الفلسطينية، بعد أن اتخذت العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي صيغتها "الموضوعية": شعب تحت الاحتلال يقاوم الجيش المحتل ويدافع عن حقه في الاستقلال. وعلى رغم ما يقال عن حصار إسرائيلي فرض على المناطق الفلسطينية، فإننا نظن أن وجود سلطة فلسطينية، بإدارتها وأجهزتها، معطوفاً عليها تجربة الانتفاضة الكبرى 1987 - 1993 يوفر الإمكانات لتجاوز مفاعيل الحصار عبر تفعيل دور المجتمع الفلسطيني في رعاية شؤونه وصموده. نطرح هذا الخيار، ونحن ندرك مسبقاً مدى حال التأرجح التي تتحكم بالقيادة السياسية الفلسطينية، ومدى الضغط الخارجي الذي يمكن أن يمارس عليها لإرغامها على تهدئة الأوضاع بذريعة تحكيم العقل والعودة الى طاولة المفاوضات. إلا أننا نرى في المقابل أن حدة العنف الشعبي الفلسطيني، وتصاعد وحشية القمع الإسرائيلي يمكن أن يولدا حالاً جديدة، يصبح فيها الضغط الشعبي الفلسطيني على قيادته عامل توازن مؤثراً في صوغ المعادلة السياسية الجديدة. ولعل القيادة السياسية الفلسطينية تقف الآن أمام لحظة شديدة الحرج، ربما تكون نقطة الضعف فيها إظهار تردد في الموقف السياسي والبحث عن حلول محدودة الأفق، يكون سقفها محكوماً بضرورات الوصول الى تهدئة عاجلة للأوضاع. لكن ثمنها لاحقاً سيكون باهظاً. * كاتب فلسطيني.