كنا نكتب ونقترح على الرئيس عرفات، ان يوقف المفاوضات العبثية مع اسرائيل، وان يخلق ازمة سياسية حقيقية، لأنه آنئذ، وآنئذ فقط، سيأتيه الوسطاء الدوليون من كل حدب وصوب، ليبحثوا معه في سبل تجاوز الازمة. الذي حصل ان باراك أعفى عرفات من هذه المهمة الصعبة، فبادر الى العنف ضد المصلّين في المسجد الاقصى بعد زيارة شارون الاستفزازية، ثم رفض التجاوب مع مقترحات اجتماع باريس، ثم رفض بوقاحة تلبية دعوة الرئيس حسني مبارك الى اجتماع شرم الشيخ الرباعي، فتزايد عنف الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، وبادر الرئيس المصري الى الدعوة لقمة عربية، وانفجر غضب الشارع العربي والاسلامي، وتحرك "حزب الله" وخطف الجنود الاسرائيليين الثلاثة، وانطلقت ديبلوماسية التهديد الاسرائيلي بالحرب، فجاءت الازمة على ايدي الاسرائيليين بدل ان تأتينا على يدي عرفات. وحدث ما كنا نتوقعه، فقد استدعت الازمة كبار مسؤولي العالم الى المنطقة، وكل واحد منهم يبحث كيفية الخروج من الازمة، وحان بذلك وقت الاصلاح الجدي للخلل الجوهري الذي كان قائماً في المفاوضات السابقة، فالرئيس كلينتون يدرس امكانية القدوم الى الشرق الاوسط، وروسيا ارسلت وزير خارجيتها حاملاً اقتراحات محددة، والامين العام للامم المتحدة جاء شخصياً ليدرس امكانية الاسهام في التهدئة، والاتحاد الاوروبي أوعز لمسؤول الشؤون الخارجية ان يتحرك نحو المنطقة، والمانيا بدأت وساطة مع "حزب الله" للإفراج عن الأسرى، ووزير خارجية بريطانيا اتصل مع سورية والمسؤولين العرب ليبحث في تحقيق السلام وفق قرارات الاممالمتحدة. وليس هذا سوى بداية التحرك الدولي للبحث في كيفية تجاوز الازمة القائمة والعودة الى طريق المفاوضات. ماذا نستنتج من هذا كله؟ نستنتج اولاً: ان انفراد الولاياتالمتحدة بمحاولة الحل كان انفراداً خاطئاً وانتهى الى فشل اميركي. ورفض اميركا العنيد دخول طرف دولي في التفاوض بدأ يتهاوى الى حد قبول اكثر من طرف وليس طرفاً واحداً فقط. ونستنتج ثانياً: ان الاستخفاف الغربي، وبخاصة الاستخفاف الاميركي، بالشارع العربي ورأيه وموقفه، تكشف عن خطأ فادح، وقدم الشارع العربي درساً بليغاً لمن يريد ان يفهم، حول الخطوط الحمر في المنطقة، والتي ظن الوسيط الاميركي انها غير موجودة، او انه يمكن الاستهانة بها. ونستنتج ثالثاً: ان ما سعت اليه السياسة الاميركية، وما سعى اليه اتفاق اوسلو السيء الصيت، من عزل للقضية الفلسطينية عن القضية العربية، هو فصل تعسّفي، وغير قائم، ومضرّ، ومرفوض من الشعب الفلسطيني ومن الشعوب العربية. ونستنتج رابعاً: ان وضعاً بهذه الحرارة، وبهذا التعقيد، لا يمكن ان يحلّ حسب الطريقة الاميركية السطحية القائلة: بوقف العنف والعودة الى طاولة المفاوضات. فبعد هذا التوتر كله، وبعد ان انتقلت المنطقة في ساعات من مفاوضات السلام الى حالة الحرب، اصبح كل سياسي، وكل زعيم، وكل وسيط، ملزماً بأن يدرك، بأن تجديد المفاوضات ليس هو الحل، فقد تجددت المفاوضات مائة مرة من دون ان تصل الى الحل. والحل الوحيد والصحيح الممكن هو ادراك الحاجة الى اسس جديدة للمفاوضات، أسس تلزم الجميع بمفاوضات على اساس قرارات الشرعية الدولية، وليس على اساس نظرية الحل الوسط الاسرائيلية - والاميركية بين مطالب المحتل ومطالب اصحاب الارض والحق. أي أسس تلزم الجميع بأن هدف المفاوضات هو الانسحاب الاسرائيلي الكامل والسيادة الفلسطينية الكاملة. وهذا ما يجب ان تركّز عليه القمة العربية، وهذا ما يجب ان يتمسك به عرفات، فها هي الازمة قد جاءته من تلقاء نفسها، وما عليه إلا ان يستثمرها بشجاعة حتى النهاية.