يا لضعف القلم حينما يطلب منه وحده أن يسجل كلمة الحق ويبارز المنكر دفاعاً عن الخير في حلبة الاعلام المتطور أمام زخم "راجمات" الفضائيات الفتاكة، التي تأتي على الأخضر واليابس في لحظات البرق قبل أن يرتد إليك طرفك. هكذا كان شعوري مع كوكبة من المثقفين يوم 21 جويلية تموز/ يوليو 2000 المنصرم، وأنا أتابع الفضائية الجزائرية، وهي تنقل حواراً مباشراً من حرم مسجد جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الاسلامية بقسنطينة مدينة العلم كما تكنى رسمياً منذ الاستقلال... لقد كان هذا الحوار يدور بين الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة والمكلف بأشغال مسجد الجامعة السيد بن عبدالرحمان، حول توسيع المسجد وإنهاء أشغاله التي طال أمدها وانتظارها، بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ المشاريع بالجزائر. وتأخر إنجاز الجامعة الاسلامية، بل وعرقل! بحيث جمدت أيضاً روافده، حتى مجيء الرئيس الشاذلي بن جديد لتفتح الجامعة أبوابها سنة 1984 بعد تعثرات عدة، وعلى رأس هذه الروافد مدارس ومعاهد التعليم الأصلي التي حرص على تطوير برامجها وزيرها استاذنا المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم، بل قدم استقالته لبومدين، لما أقدم هذا الأخير - تحت تأثير الطابور الفرانكو - شيوعي - على الغاء معاهد التعليم الأصلي، تحت ذريعة توحيد التعليم، ووقاية ما كان يسمى بالثورة الاشتراكية من أخطار الفكر الرجعي التي كان يمثل التعليم الشرعي طليعته في نظر الثوريين المستلبين، الذين تحولوا بسرعة الى طابور الرأسمالية الوحشية بعد سقوط بقرة الثورة الاشتراكية، ليواصلوا امتصاص دماء المجتمع بعد أن جفت مرحلة الحليب. أعود لهذا الحديث المتلفز المباشر الذي أعادت الفضائية الجزائرية بثه مرات نكاية في كل من يحلم، مثلي، في أن العلوم الاسلامية تنجب جيناً محصناً يمكن أن يعوّل عليه في حمل مشعل الخير والذود عن حمى الدين والوطن. وحتى الصحافة الاستئصالية لم تغض الطرف عنه، كبعض قريناتها "الوطنية"، لأنه يعبر بصدق عن سياسة الغدر التي تنتهجها الطغمة العسكرية لتجفيف منابع الاسلام في الجزائر الجريحة، بحيث طلب علناً السيد بن عبدالرحمان المساعدة من بوتفليقة بقوله: "تكفي إشارة منكم سيدي الرئيس، لفض المشكلة، مشكلة إكمال ما تبقى من بناء المرافق وتصبح جامعتنا الاسلامية قبلة العالم الاسلامي...". فقاطعه بوتفليقة بقوله: "هذه جامعة علوم انسانية وليست اسلامية وهي كسائر الجامعات الجزائرية، وللجزائر هموم ومشاغل عدة، أما الجلوس على الحصائر فقد ولى عهده، ونحن في زمن الاعلامية والجزائر لها أولويات أخرى كالسكن الاجتماعي وتوفير مناصب الشغل الخ...". ثم أردف قائلاً: "أنظر الأزهر الشريف يدرّس فيه الأدب وفنون أخرى. أنظر الى الزيتونة والقرويين، أنا لست ضد التعليم الديني، لكن لا أحب أن يضاف طالب واحد الى العدد اللازم، فإن كان حجم الجامعة يتسع لألف طالب لا تضيفوا الى ذلك ولو طالباً واحداً... يكفي!". نعم الزخارف المبالغ فيها مرفوضة شرعاً ومصلحة. وقد ذكر البرلماني السويسري المشهور جان زيغلير في كتابه الجديد ان جنرالات الجزائر يملكون شوارع برمتها في مدينة جنيف وحدها! ناهيك عن فرنسا، "أم الخبائث"، وغيرها. كما ان منظمة الضباط الأحرار الجزائرية وزعت بياناً قبل أسابيع به قائمة الجنرالات وأرقام حساباتهم وممتلكاتهم في البنوك الأجنبية يمكن لمن يريد الاطلاع على ذلك في محطتهم الالكترونية www.anp.org. فتهميش التعليم الديني من شأنه أن ينجب لنا أنصاف متعلمين وأشباه متفيقهين، بل يفتح الباب على المجهول للأعمال الموازية والطفيلية للجماعات الشاذة التي يقف وراءها الجناح الاستئصالي في المؤسسات العسكرية والإعلامية والادارية. وما تنصيب لجنة لإعادة النظر في البرامج الدراسية لمختلف الأطوار منذ أشهر، وتكليف طاقم أقل ما يقال فيه أنه ذو توجهات تغريبية مستلبة، إلا دليل على النيات الخبيثة المبطنة لزيارة بوتفليقة لقسنطينة. لهذا تراني أحمل الساعة هذا القلم، سلاحي الوحيد، بين أصابع ترتجف وأنا العضو الأسبق في المنظنمة التربوية، والمشارك في آخر ندواتها الحرة المنعقدة سنة 1989، وفي القلب طوفان من اللهب الذي لا يهدأ، وفي الصدر نحيب يختنق، ولوعة لا تبين. وفي الحلق غصة، وفي اللسان عقدة، لأني أعرف الى أين هم ذاهبون. لقد أصابني يومها مدة ساعات طوال دوار شديد، أعقبه تخبط في النفس، وتصدعت المشاعر والأفكار وراء صدري، كما تصدعت صخرة أهويت عليها بمطرقة عاتية ثقيلة، بعثرتها الى حصى متفرقة. فما أملك وسيلة لجمع شتاتها في ذهني، ولا سبيلاً للتعبير عنها بلساني وبناني لا لشيء إلا لما لهذه الجامعة من فضل على كثير من إخواني وأخواتي... واقتنعت أن الضربات الموجعة في العمق، تأتي دائماً من وراء الظهر أقصد من وراء البحار، بل في العمود الفقري لكي تصاب الأمة بشلل كلي وتنمو مع مر الأيام والسنين مقعدة ساكنة حتى يأتي الله بأمره. فإن حاولت القفز الى العلياء في سلم القيم، تدحرجت "كجلمود صخر حطه السيل من عل". وكما ذكر أستاذنا الدكتور توفيق الشاوي في مذكراته نصف قرن من العمل الاسلامي لمشهد مماثل عاشه هو، قبل أن أولد أنا، حيث كتب ص: 321: "... هناك دلائل كثيرة اكتشفتها في ما بعد وأقنعتني بأن الهجوم على الإخوان المسلمين في مصر سنوات 1945 ثم 1954 و1956، قد ساهمت فيه ومهدت له واستفادت منه قوى أجنبية عالمية متعددة فلم يكن حدثاً محلياً من صنع جمال عبدالناصر وعبدالرحمان عمار و...، أو غيرهم ممن يوقعون على قرارات قد أعدت في أروقة المخابرات الأجنبية المعادية للاسلام... مثل قرارات إلغاء الجامعات الإسلامية في ليبيا والسودان وفاس، أو ما يسمى تطوير الأزهر". كما اطلعت على ما كتبه البعض عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خصوصاً رجالها وتلامذتها، من أن المستعمر الفرنسي أدرك ان الحركة الاسلامية تتميز عما عداها بظاهرة فريدة نادرة، تكاد لا تقع على نظير لها في حركة الانسانية، تلك هي ظاهرة الجمع بين العقيدة واللغة أو بين الفكر ووعائه، وتأكد لدى هؤلاء المستعمرين أن الشعوب العربية الاسلامية إذا أرادت أن تستأنف مسيرتها الحضارية، فلا بد أن يكون ذلك في نطاق العقيدة الاسلامية أولاً واللغة العربية ثانياً... كتب الأستاذ مصطفى لَشْرف وزير التربية الوطنية 1977/1978، الكاتب الفرنكفيلي المعروف في الاسبوعية الفرنكفونية - الشيوعية "الجزائر الأحداث" Algژrie Actualitژ عددي 1369 و1370 الصادرين في شهر يناير ك2 1992، أي بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية في دورها الأول يوم 26/12/1991، والتي فازت فيها الجبهة الاسلامية للانقاذ بالغالبية المطلقة، تحت عنوان الجزائر مريضة بدينها، موجهاً كلامه للسلطة بعد الانقلاب، محرضاً إياها لوضع حد نهائي لتجاوزات الشعب الجزائري الدينية !! ولوقف عملية التعريب - التي دعت اليها المنظومة التربوية وأصدر بذلك المجلس الشعبي الوطني البرلمان مرسوماً وقعه رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد بتاريخ يوم 16 يناير 1990 -، ومما جاء في المقال ان: "شعب بأسره يدمج بطريقة متغطرسة في أناس يريدون أسلمته وتعريبه، من دون الأخذ في الاعتبار لا لماضيه الثقافي ولا لسنوات استقلاله الثلاثين" واصفاً بعد ذلك العربية باللغة المستوردة، والدين بالأصولية الغريبة عن الإسلام المغربي. فعلاً لقد حق للشعوب أن تدرك منذ القدم أن بناء المستقبل الزاهر لا يكون إلا بتوافر أسباب النجاح والتطور، وان هذا الأخير لا يقوم إلا على ركائز عدة أهمها البشرية والروحية والمادية معاً، وكذا التفاعل مع الحضارات والمجتمعات الأخرى... وقد سقطت فعلاً حضارة المسلمين منذ قرون! ولم يشفع للمسلمين اسلامهم، لأنها فقدت "فاعلية المسلم" كما يقول مالك بن نبي رحمه الله. وسقط بها كيانهم السياسي منذ أكثر من نصف قرن جزاءً وفاقاً من رب عادل. لأنهم خالفوا سننه التشريعية والاجتماعية والكونية مصداقاً لقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد/11. ولكن الدعوة بقيت قائمة، بل في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات السياسية تحتضر كانت الدعوة تفكر في البديل، ولم تجد إلا العمل الدعوي كونه عبادة وواجباً ضمن الواجبات الدينية والتكاليف الشرعية التي أوجبها الله على عباده المؤمنين. لقد سعى الطاقم العلمي الأول لجامعة العلوم الاسلامية الى القيام برسم خطة لبرنامج متنوع طموح وفق تخصصات المعاهد والجذوع مهمته علاوة على ترسيخ العقيدة الصحيحة ومنهاج النبوة والسلف الصالح، والسعي لبحث جاد لعلل الأمة، وأسباب الإصابة بها، ودرجة رسوخها في الواقع النفسي والعقلي والعقدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتربوي للفرد والمجتمع، وعوامل تغذيتها والمحافظة على استمراريتها في حياة الأمة، ثم الانطلاق من ذلك الى اقتراح الحلول والبدائل الواقعية الأصيلة، التي تمكن العمل الاسلامي من إثبات وجوده، وتحمل مسؤولياته التاريخية في التصدي للسقوط، وإيقاف طوفان المديونية الحضارية التي يعمل سدنة الغرب وقواه الاستئصالية بكل قوة على تعميقها، حتى يقطع طريق العودة على الأمة الاسلامية، ويحكم عليها بالتبعية الذليلة له في منفاه الايديولوجي القاتل الفتاك. وكما أسرَّ إلي كثير من المسؤولين في النظام، فإن القطرة التي أفاضت الكأس هي فتح الجامعة الاسلامية بقسنطينة، ثم الترخيص بعد فترة من ذلك لحزب اسلامي هو الجبهة الاسلامية للانقاذ، التي تجاوب مع اطروحاتها الفكرية والسياسية غالبية المجتمع الجزائري، وأبدى استعداداته للمضي معها الى حياة جديدة، بديلة عن نموذج المجتمع التقليدي المنسوخ نسخاً مشوهاً من المجتمعات الغربية المعاصرة! فمجموعات المصالح الفئوية والطبقية والايديولوجية، المرتبطة عضوياً واستراتيجياً بنفايات الحضارة المعاصرة، كانت تعي جيداً الأبعاد الثقافية والحضارية لظهور المؤسسات التعليمية والتربوية التأصيلية في المجتمع الجزائري الذي حرم من ذلك أمداً طويلاً، وما يمكن أن تمد به هذه المؤسسات الحيوية الحركة السياسية للمجتمع من قوة ذاتية متجددة، تحرر إرادته وإمكاناته الحضارية، وتدفع به الى المزيد من الالتحام مع ذاتيته وهويته المتميزة، وبالتالي التخلص من عقد التبعية ودخول ساحات المنافسة بكل ثقة في النفس... وبعد كل هذه الآهات والزفرات، فهل من كلام؟ نعم حق للمغرضين من الذين يعنيهم مقالي هذا أن يقولوا ما شاؤوا كعادتهم عن الإسلام وجبهته فشعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب. أما العبد لله فحسبه قول العلامة عبدالرحمان الكواكبي رحمه الله: "صيحة في واد، ونفخة في رماد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فستأتي غداً بالأوتاد!". وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين. محمد مصطفى حابس المجلس التنسيقي للجبهة الإسلامية للإنقاذ- جنيف