هل أصدر الإمام المصلح عبدالرحمن الكواكبي صحيفة ثالثة بعد اصداره "الشهباء" و"إعتدال"؟ أجمع كل المؤرخين والباحثين على أن الكواكبي طوى صفحة اصدار الدوريات بصورة نهائية في العام 1880، إثر الغاء الوالي العثماني في حلب صحيفته الثانية "إعتدال". ذلك ان الكواكبي الذي كرّس كل امكاناته المادية والفكرية من أجل الصحافة، لم يتمكن، خلال أربع سنوات، من اصدار أكثر من 16 عدداً من "الشهباء" وعشرة أعداد من "إعتدال". كان المكتوبجي رقيب الصحافة بالمرصاد لصحيفته بإيعاز من والي حلب الذي تلقى بدوره الإيعاز من السلطان عبدالحميد. فهل يبقى مصراً على إصدار الصحف بعد أن استجوب واعتقل أكثر من مرة، اضافة الى تكبده خسائر مادية كبيرة، وتأكده من أن باب اصداره الدوريات موصد بوجهه؟ بل ان كل الذين درسوا الكواكبي استمروا في القول انه لم يستأنف اصدار الدوريات بعد انتقاله من حلب الى القاهرة حين توفرت الحرية التي أتاح مناخها لمئات المثقفين الشوام كي يصدروا الصحف والمجلات وفي طليعتها "الأهرام" و"المقطم" و"الهلال" و"المقتطف". والسؤال الخاص بامكان اصدار الكواكبي لصحيفة ثالثة، للمرة الأولى في العام 1998، حين تلقى القاضي سعد زغلول الكواكبي مذكرات عمّه الدكتور أسعد الكواكبي، وورد فيها أن جدّه عبدالرحمن أصدر في القاهرة، عام 1900، صحيفة "العرب"، ولكن الخديوي عطلها بعد العدد الثالث، بسبب نقدها العنيف للسلطان العثماني. لكن سؤالاً ثانياً طرحه عليَّ حفيد الكواكبي عن المكتبة التي يمكن أن تحتضن أعداد "العرب" الثلاثة أو واحداً منها على الأقل؟ وهو فعل ذلك لأني عثرت سابقاً على عشرة أعداد من "الشهباء" والعدد الأول من "إعتدال" في مدينة "هالي" الألمانية. وسرعان ما وجدت العدد الأول من "العرب"، ولكن، ليس في المانيا ولا حتى في القاهرة، بل في بيروت. فهل كانت صحيفة الكواكبي الثالثة نسخة طبق الأصل أو منقحة عن شقيقتيها اللتين ولدتا قبلها بربع قرن؟ كانت "العرب" صحيفة مختلفة تماماً عن "إعتدال" و"الشهباء" الدوريتان الحلبيتان توّجتا باسم صاحب الامتياز استعان الكواكبي بهاشم العطار لنيل الترخيص وبعض أسماء المحررين المتطوعين أمثال الكاتب الحلبي الشهير جبرائيل الدلال، واحتضنت أعدادهما المقالات والترجمات والأخبار وغيرها، وانتقد الكواكبي فيهما السلطان مداورة، أي عبر نقده لوالي حلب وأعضاء البلدية والمأمورين المقصرين أو الفاسدين. وخلت ترويسة الصفحة الأولى من "العرب" من أي اسم أو حتى أي عنوان باستثناء الرقم 517 الخاص بصندوق البريد أو "البوستة". ونقرأ تحت اسم الدورية التعريف الآتي: "صحيفة سياسية جامعة لكلمة العرب مطالبة بحقوقهم وممهدة لأعمال مهمة خيرية أسست يوم العيد الفضي الحميدي المبتدع". وهذا يعني أن توقيت صدور العدد الأول ليس إلا إمعاناً في نقد سيد قصر يلدز، وليس احتفاء بذكرى تبوئه العرش كما فعلت بعض الدوريات. قيمة الاشتراك "ما يسمح به إعانة قلّ أو كثر". أما مركز الصحيفة المبدئي فهو عدن ولكنها "تصدر في مصر موقتاً". ويتضمن العدد الأول المتوافر، المؤلف من أربع صفحات بالحجم العادي للدوريات، ثمانية مقالات بدءاً بالافتتاحية التي لا تختلف عن المقالات السبعة إلا بالمقطع الأول الآتي: "الحمد لله المنتقم الجبار والصلاة والسلام على النبي العربي وآله وأصحابه الأبرار. أما بعد فقد أصدرنا هذه الجريدة باسم "العرب" بعد الاتكال على الله الموفق لصالح الأعمال، وعاهدنا النفس على أن تتوخى سبيل الصدق والحق والانصاف في شرح الحوادث الجارية في جزيرة العرب وتحويل أنظار ذوي العواطف من رجال العرب الكرام في أنحاء المسكونة الى حالة اخوانهم ... حتى يمدوا اليهم يد المعونة ويساعدوهم على الخلاص... و"العرب" اسم على مسمى. فالكواكبي لم يكتف بالدفاع عنهم ضد الظلم الذي يمارسه بحقهم الولاة العثمانيون وجنودهم، بل هو طالب، في أكثر من مقال، باستعادة الخلافة من بني عثمان، مقدمة ليكون الخليفة عربياً، بل وقرشياً بالتحديد. ويؤكد الكواكبي تحت عنوان "الخلافة الاسلامية وشروطها" على ضرورة "رد أمانة الخلافة الى خليفة من أهلها يكفل للمسلمين النجاة ويقيهم المهلكات". ولكن السلطان عبدالحميد كان الهدف الرئيسي الذي انطلقت باتجاهه نيران "العرب" المحرقة. والكواكبي المشهور بطرح الأسئلة غير المحتاجة الى أجوبة، يتساءل في مقال "رد رنّان على رسالة التركي": لمَ عفا عبدالحميد عن الصدر الأعظم المصلح الشهير مدحت باشا من جريمة قتل عمه السلطان عبدالعزيز خان و"استبدل حكم الإعدام بالنفي ثم أمر بشنقه"؟ و"لم أقرّ على القانون الأساسي ومجلس المبعوثان ثم فرّقه بعد ذلك ونفى أعضاءه"؟ ويذكر أن مدحت باشا الذي كان له الدور الأساسي في فتح أبواب مجلس المبعوثان أو البرلمان، مات خنقاً في معتقله في جدة على يد الوالي العثماني الذي نفّذ بذلك أمر السلطان. تبقى حقيقتان جارحتان أولاهما ان هذه الصحيفة التي كانت تصدر في القاهرة تعطلت بعد العدد الثالث، في حين وصلت أعداد "الشهباء" الى الرقم 16 و"إعتدال" الى الرقم 10، على رغم صدورهما في حلب. وهذا يعني ان الخديوي لم يكن صديقاً للكواكبي كما يزعم معظم الباحثين الكواكبيين، بل كان صديقاً للسلطان، اذ سارع الى تعطيل الصحيفة التي صدرت من أجل وضع حد لاستبداده وفساده. الحقيقة الثانية، ان "العرب" التي صدرت في العام 1900، بهدف تعزيز الحرية والديموقراطية في القرن العشرين، قد وُئدت في المهد، فيما استمرت كفة الفساد والاستبداد راجحة في مستهل العام 2000. * كاتب لبناني.