القضية المثارة الآن بين المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفنغ ويهود العالم والمنظمات الصهيونية حول موقفه المعارض للروايات اليهودية عن الهولوكوست، ليست إلا مثالاً واحداً لمشكلات وقضايا تُثار كل بضع سنوات، حين يظهر من بين العلماء أو المفكرين من يجد لديه من المعلومات ومن الشجاعة الأدبية ما يدفعه الى مناقشة صحة ما يردده اليهود عن المحرقة وأفران الغاز التي يقولون إن ألمانيا النازية أقامتها كجزء من سياستها لإبادة اليهود والقضاء عليهم تماماً في أوروبا، وردود الفعل العنيفة التي يتعرض لها هؤلاء العلماء والمفكرون من المنظمات اليهودية التي تلجأ الى سلاح التشهير والتشنيع والتشكيك في الأمانة العلمية واستعداء الرأي العام العالمي ضدهم والمطالبة بتقديمهم الى المحاكمة جزاء تعاطفهم مع سياسة إبادة اليهود ومعاداة السامية. مع أنه ليس من الضروري أبداً أن يكون كل الذين وقفوا هذا الموقف المتشكك من الروايات اليهودية من المعادين لليهود أو ممن يعبرون في آرائهم عن مواقف سياسية أو أيديولوجية مناوئة للسامية أو من غير المتعاطفين مع اليهود في ما لحقهم خلال كل تاريخهم من إيذاء واضطهاد وتشتيت. فليس هناك من ينكر من بين هؤلاء الكتاب أن اليهود تعرضوا لكثير من القهر والتعذيب والتشريد في أوروبا ذاتها قبل الحرب العالمية الثانية، كما تعرضوا للإيذاء والقتل اثناء الحرب، ولكن مثلما تعرض غيرهم من الشعوب على أيدي الجيوش المتحاربة من الطرفين، حتى وإن كان حظ اليهود من الأذى أكبر بكثير من حظوظ غيرهم من بؤساء وضحايا الحرب الأبرياء. والأغلب أن الذين كتبوا في الموضوع وعارضوا دعاوى اليهود كانت تحركهم الرغبة القوية والمشروعة في إظهار حقيقة ما حدث لليهود على أيدي النازيين الألمان بغير مبالغة أو تهويل. فالدافع الأول لهؤلاء الكتاب كان الالتزام الأخلاقي نحو الحقيقة كما تسجلها الوقائع والوثائق المتاحة أو كما يرويها الأشخاص الذين عاصروا تلك الأحداث ولمسوها عن قرب، بالإضافة إلى تحكيم العقل في قراءة الأحداث وتفسيرها واستخلاص النتائج التي تتفق مع العقل والمنطق. فالذي ينكره هؤلاء الكتاب والمؤرخون والعلماء ليس هو العنف أو القسوة أو أحداث التعذيب والتشريد التي خضع لها اليهود تحت حكم النازي، وإنما هو المبالغة والمغالاة وإطلاق العنان للخيال، كذلك وسائل التعذيب وأساليبه وطرقه والمبالغة في عدد الضحايا الذين وصلوا في معظم التقديرات اليهودية إلى ستة ملايين نسمة. وهي أمور يرفضها هؤلاء الكتاب والمفكرون المتشككون ويرون كثيراً من التهويل الذي يخرج بالأحداث من حيز الواقع المقبول إلى مجال الأسطورة والخيال. وقد استطاع يهود العالم بما أتيح لهم من امكانات مالية ودعائية وإعلامية تحويل هذه الأسطورة أو الأكذوبة - كما توصف في كثير من تلك الأعمال - إلى نوع من الحقيقة التاريخية الثابتة التي لا تقبل المناقشة. والخطورة تكمن في تقبل الغالبية العظمى من الناس، في كثير من أنحاء العالم - وربما في ألمانيا ذاتها - هذه الأكذوبة كأمر واقع ومسلم به. والأكثر خطورة من ذلك كله هو صمت الذين يعرفون الحقيقة عما في الروايات اليهودية من زيف ولا يجدون في أنفسهم الشجاعة أو القدرة على إبداء الرأي خشية التعرض للتنكيل والأذى والابتزاز والاضطهاد على أيدي المنظمات اليهودية التى تتمتع بقدرة فائقة على الإيذاء الأدبي والمعنوي والمادي بل والجسدي، إذا اقتضى الأمر ذلك، مما ساعد على تضخيم الروايات اليهودية بحيث أصبحت جزءاً من التاريخ الحديث. وأفلح اليهود والمنظمات والمؤسسات اليهودية والصهيونية العالمية بفضل تماسكهم القوي الذي يستحق الإعجاب من دون شك، وكذلك بفضل الإصرار على نشر رؤيتهم الخاصة وتفسيرهم وقراءتهم للأحداث، أن يجعلوا من روايتهم عن الهولوكوست وأفران الغاز وسياسة النازي إزاء إبادة اليهود جزءاً من الثقافة السياسية العالمية المعاصرة التي لا تقبل الجدل. ولم تمنع الهجمات الشرسة التي يتعرض الكتاب والمفكرون والمؤرخون المعارضون للروايات اليهودية من الهولوكوست من قيام محاولات جادة كثيرة للكشف عن جوانب الزيف في تلك الروايات. وبدأت هذه الكتابات في الظهور بعد الحرب العالمية بقليل، وربما كان من اوائل من تعرضوا لذلك واصبحت كتابته مرجعاً لكثيرين، وان كان يشوب معلوماته بعض النقص، عالم الجغرافيا الفرنسي بول راسنيين الذي أصدر العام 1948 كتاباً عنوانه "تجاوز الخط" ناقش فيه تلك الروايات لإثبات ما فيها من مبالغات تصل الى حد الكذب والادعاء، واستعان في ذلك بكثير من المعلومات الدقيقة والإحصاءات المتعلقة بأعداد اليهود في أوروبا في ذلك الحين. وأثير حول راسنيين كثير من الزوابع والعواصف وقدم للمحاكمة ولكن المحكمة برأت ساحتة. إلا أن الجهود المتواصلة ضده افلحت في تقديمه للمحاكمة مرة أخرى وحكم عليه وعلى الناشر وعلى كاتب مقدمة الكتاب بغرامة مالية كبيرة. ولم يمنعه ذلك من مواصلة الكتابة والمحاضرة والنشر وإعلان أن ما يقال عن سياسة إبادة اليهود هو "أكذوبة تاريخية" ضخمة، وربما كان أفظع واسوأ أنواع الخداع في كل العصور. ومات راسنيين العام 1967 بعد أن ترجمت بعض كتاباته الى الايطالية والاسبانية والألمانية، ولكن لم تتم ترجمتها الى الانكليزية ونشرها في اميركا إلا بعد ذلك بوقت طويل نتيجة لمعارضة يهود اميركا والوقوف ضدها لخطورة ما تضمه من أخطار. والواقع ان عدداً من اليهود الألمان أنفسهم الذين عانوا الكثير تحت الحكم النازي وقبله في ألمانيا وغيرها من دول القارة الأوروبية، كانوا ينكرون بشدة من واقع تجربتهم الشخصية أن تكون إبادة اليهود والقضاء عليهم تماماً جزءاً من السياسة الالمانية في أي وقت من الأوقات. وأحد هؤلاء اليهود الألمان هو يوسف غنزبورغ الذي هرب وعائلته الى اميركا ثم هاجر الى اسرائيل. فقد كان صهيونياً متحمساً ومتعصباً ولكنه لم يلبث ان تنكر للصهيونية بعد أن مارس الحياة هناك وعاد الى ألمانيا ليعيش في ميونخ من تجليد الكتب. ونشر هو نفسه عدداً من الكتب حول المحرقة وأفران الغاز ومعاملة الألمان السيئة لليهود وبخاصة أيام الحكم النازي، ولكنه نفى بشدة جريمة إبادة اليهود عن السياسة الالمانية وقرر ان ما يذيعه اليهود حول هذه السياسة وإبادة ستة ملايين يهودي هو أكذوبة اخترعها اليهود والصهاينة كوسيلة للابتزاز واستدرار العطف العالمي. وبطبيعة الحال لم يسلم غنزبورغ من العقاب، إذ تربص به بعض اليهود الألمان وانفردوا به اثناء زيارته لقبر زوجته في مدافن اليهود في ميونخ واشبعوه ضرباً حتى كاد يُقضى عليه. وصدرت بعض الكتابات المناقضة لروايات اليهود من أشخاص عاديين جاؤوا من تخصصات مختلفة وبعيدة عن التاريخ والسياسة والإنسانيات عموماً، كما هي الحال بالنسبة للمهندس الاميركي آرثر بوتز الذي يعترف بأن عقله كان يرفض تصديق وتقبل مبالغات اليهود، مما دفعه الى تكريس جانب كبير من وقته لفحص ودراسة وتحليل كل ما أمكنه التوصل إليه من معلومات وأرقام وحكايات حول المحرقة وسجل ذلك في كتاب عن أكذوبة القرن العشرين، وهو كتاب خليق بأن ينقل الى اللغة العربية لما فيه من معلومات طريفة ومتنوعة تكشف عن أسلوب اليهود الصهاينة في التفكير وتزييف الوقائع بما يخدم أهدافهم، على ما يقول. وقد يكون غريباً انه على رغم كثرة ما كتب حول الموضوع في الخارج وتضارب الافكار فإن ما نعرفه من هذه الكتابات قليل للغاية، مع ان الموضوع او جانبه الانساني يتعدى اليهود، بصرف النظر عن مدى ما في رواياتهم من صدق أو كذب. كما ان للموضوع صلة مباشرة بالعالم العربي لأن احدى النتائج المترتبة بشكل مباشر او غير مباشر على معاملة اليهود في المانيا أو اوروبا تحت حكم النازي هي قيام اسرائيل بكل ما تمثله من تهديد للثقافة العربية بالمعنى الواسع لكلمة "ثقافة". كما ان الجهود التي يبذلها اليهود لمنع صدور الكتابات التي تتعارض مع رؤيتهم وروايتهم للظروف التي عاش تحتها اليهود أيام النازي واضطهاد المفكرين الذين يثيرون الشكوك حول هذه الرؤية وتلك الرواية ومطاردتهم بالوسائل المشروعة وغير المشروعة، كلها امور خليقة بأن تكشف لنا مدى احترام اليهود والغرب عموماً لحرية التفكير إذا تعارضت هذه الحرية وذلك التفكير مع مصالحهم الخاصة وما يحقق فرض إرادتهم على الآخرين. * أنثروبولوجي مصري.