تعقد اليوم في موسكو اجتماعات للجنة التوجيه التي تشرف على تسيير المفاوضات الاقليمية المتعددة الأطراف الخاصة بالشرق الأوسط وذلك للمرة الأولى بعد توقف استمر سنوات. ويشارك في هذه الاجتماعات وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا وكنداواليابان والنروج والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن وتونس ومسؤول ملف القدس في السلطة الوطنية الفلسطينية فيصل الحسيني ووفد يمثل الاتحاد الأوروبي. تعود المفاوضات الاقليمية في موسكو اليوم بعد ثماني سنوات بالتمام والكمال. تغيّرت أمور كثيرة بين نهاية كانون الثاني يناير 92 ونهاية كانون الثاني 2000. وحتى وزير الخارجية الاسرائىلي ديفيد ليفي تغيّر. فلقد حضر الافتتاح ممثلاً ل"ليكود" وسيحضره ثانية بصفته حليفاً وثيقاً لحزب العمل! لقد تعطّلت هذه المفاوضات في فترة حكم بنيامين نتانياهو ويراد لاستئنافها استعادة وظائفها الأولى وعلى رأسها الايحاء بأن عملية التسوية بخير. وتؤكد وقائع الجلسات السابقة وهي بالعشرات، وكذلك الدراسات عنها، أن هذه الوظائف، كما اسم المفاوضات، متعدّدة. الوظيفة الأولى تقضي بايجاد عالم افتراضي يوحي بما سيكون عليه الشرق الاوسط بعد "السلام". فالمفاوضات الثنائية مخصصة لحل مشاكل الماضي والاقليمية لرسم صورة المستقبل. وتسعى الوظيفة الثانية الى إيجاد موطئ قدم لدول ومؤسسات محرومة من المشاركة في "الثنائية" سواء على الصعيد العربي أم العالمي الاتحاد الاوروبي، اليابان، كندا... الخ. أما الوظيفة الثالثة فهدفها الإيحاء، عبر مجموعات العمل، بوجود قضايا اقليمية ذات اهتمام مشترك تستعجل ضرورة التعاون وذلك بغض النظر عن إيجاد حلول للمشاكل الاصلية التي تشكل جوهر النزاع العربي - الاسرائىلي. والغاية الاجمالية من ذلك كله طمأنة اسرائيل وجعلها تحصل، مسبقاً، على جانب من ثمرات السلام الموعود حتى لو أنها لم تقم بما عليها لجهة دفع "الفاتورة" التي يمليها رفضها الاعتراف الكامل بالحقوق العربية. ان وزير الخارجية الاميركي الاسبق جيمس بيكر هو الأب الروحي لفكرة المفاوضات الاقليمية. ولقد كان طموحه، منذ البداية، الدفع نحو أكبر قدر ممكن من الفصل بينها وبين المفاوضات الثنائية تماماً كما يحصل الفصل بين مسارات هذه الاخيرة. وفي حين رفضت دول عربية، بينها سورية ولبنان، خوض هذه التجربة، وفي حين استُبعدت دول اخرى عن "نعيم" المشاركة، بينها العراق وليبيا والسودان، فإن الدول التي شاركت أكدت ان في استطاعتها تحويل هذه المفاوضات الى ميدان جديد للصراع. وتقضي الحقيقة القول ان نجاحاً ما حصل في المجال الاخير، ولكنه لم يمنع تغليب منطق فرض نفسه على جدول الاعمال وأراح منه، عملياً، كل ما يسبب إزعاجاً كبيراً لاسرائيل. وتم ذلك بفضل الضغط الاميركي طبعاً، ولكن، ايضاً، بسبب ان آلية العمل المتبعة اقتضت توفر الإجماع الأمر الذي أعطى تل أبيب، مدعومة من واشنطن، حق النقض. يضم الهيكل العام للمفاوضات الاقليمية ست مجموعات عمل: التوجيه، الموارد المائية، البيئة، اللاجئين، مراقبة التسلح والأمن الاقليمي، التنمية الاقتصادية الاقليمية. لجنة التوجيه تضم لجنة التوجيه 12 دولة وقد انقسم عملها الى مرحلتين. فمن جولة المفاوضات الاولى حتى الرابعة كان دورها احتفالياً. ولكن ذلك لم يمنعها من استخدام حقها في رفض تشكيل لجان جديدة تتعاطى بمواضيع الطاقة وحقوق الانسان والصحة والقدس، كما في رفض ضمّ أي مندوب عن الأممالمتحدة. تغير الدور بداية شباط فبراير 1994 في جولة المفاوضات النصفية في مونتو بللو حيث تمّ الاعتراف بالحاجة الى وجود قيادة تضع توجيهاً استراتيجياً. وشرعت اللجنة تمارس رقابة على مجموعات العمل الاخرى وتحاسبها وتطالبها باشراك القطاع الخاص. وخلصت الى نتيجة ان المطلوب ليس تراكم المشاريع الفردية وانما "وضع خطوط توجيهية لمسيرة السلام في الشرق الاوسط". وتمّ بالفعل وضع مشروع بهذا الصدد ونوقش في الاجتماع الخامس في طبرق ولكنه سقط لاحقاً، في القاهرة، بمناسبة الاجتماع النصفي في كانون الثاني 1995. ولم ينفع لقاء مونترو في ايار مايو 1995 في انقاذ الأمر ثم كان ان تكفّل فوز نتانياهو بتجميد البحث. لجنة الموارد المائية انطلق العمل في هذه اللجنة التي عقدت سبعة اجتماعات آخرها في عمان مع لجنة البيئة، من الاعتراف بأن قضية المياه، في حوض الاردن خاصة، هي جزء عضوي من الصراع العربي - الاسرائىلي. وسرعان ما لوحظ ان الموضوع مطروح في المفاوضات الثنائية نتيجة تداخله الكامل مع موضوع الارض المحتلة في الضفة الغربية كما في الجولان. حاول العرب طرح عنوان "الحق في المياه"، وهو موضوع نزاع، رفضت اسرائيل واقترحت البحث في مجالات تعاون تتجاوز واقع الاحتلال. وتلقت دعماً من أميركا، رئيسة اللجنة، وحسم الأمر بعد ثلاث جولات صعبة بالتوافق، كما تريد اسرائيل، على تحديد جدول أعمال "ملائم لفكرة التعاون". وهكذا تقرر، في الجولة الرابعة، استحداث بنك للمعلومات حول مياه المنطقة، والتركيز على كيفية ادارتها والحفاظ عليها لا كيفية توزيعها حسب الحقوق والقوانين والاعراف الدولية، والسعي الى زيادتها وتعزيز التعاون في هذا المجال. وفي اجتماع لاحق في الاردن، تمّ إقرار خمسة اقتراحات: ألماني لتحديد حاجات الاطراف، وأميركي لمعالجة المياه المبتذلة، واسرائىلي عن التصرّف بمياه البلديات، وياباني لانشاء مركز دراسات لتكنولوجيا التحلية في مسقط، وبرنامج تدريبي تموّله أميركا والاتحاد الاوروبي. وشرع في تنفيذ هذه الاقتراحات قبل أن تهبّ العاصفة الليكودية. لجنة البيئة عقدت لجنة البيئة سبعة اجتماعات آخرها مع لجنة المياه كانت كلها برئاسة اليابان. وتفرّعت الى لجان تلتقي بشكل غير رسمي. وترأست أوروبا تلك الخاصة بشرق المتوسط، وايطاليا لجنة النفايات الصلبة، واليابان فريق العمل المكلف ايجاد ميثاق سلوك بيئي، والبنك الدولي مجموعة مكافحة التصحّر، والاردن التربية البيئية. وبعد سلسلة اجتماعات في لاهاي والمنامةوعمان قرّ الرأي على تركيز الاهتمام بمكافحة التلوّث في خليج العقبة، وبالصحة البيئية وآثار المبيدات، وبانشاء مراكز إقليمية، والعناية بقطاع غزة. ولما حاولت مصر ان تضع على جدول الاعمال موضوع مخاطر الاشعاعات النووية رفض الاسرائىليون ذلك وتمّ الاكتفاء، لاحقاً، بذكر التباين في البيان الختامي. وحصل الانجاز، الأهم للجنة في اجتماعها السادس الذي أصدر "وثيقة المنامة". وهي تحدد مبادىء ومعايير التحكم بالتنمية وتعترف بالتداخل بين السياسات الشرق أوسطية في هذا المجال، وتوافق على استخدام التكنولوجيا التي تخدم البيئة. وتمت الموافقة على اقتراح أردني بانشاء مركز للمعلومات في عمان وآخر لنقل التكنولوجيا في المنامة. لجنة اللاجئين كان العمل في لجنة اللاجئين رئاسة كندية صعباً. فالمفاوضات الثنائية تهتم بهذا العنوان وكذلك ثمة اطار رباعي مصر - الاردن - فلسطين - اسرائيل لبحث مشكلة النازحين. بدأت اسرائيل إطلاق النار عند الخطوط الأمامية فرفضت مشاركة فلسطينيين من خارج الأرض المحتلة في الاجتماعات وإدراج "لمّ الشمل" على جدول الأعمال. وقاطعت اجتماع أوتاوا الى ان فاز حزب "العمل" بالانتخابات فوافق على وجود فلسطيني شرط ألا يكون المفاوضون منتمين الى منظمة التحرير. هنا، ايضاً، سجّلت تل أبيب نجاحاً باستبعاد الموضوع الاصلي: حق العودة، فاقتصر البحث على إيجاد الصيغ اللازمة ل"تخفيف عذابات اللاجئىن شرط الا يتعارض ذلك مع الحلول النهائية المطروحة في المفاوضات الثنائية". وهكذا تمّ تحديد ستّة عناوين مع دول مسؤولة عنها: المعلومات النروج، لمّ الشمل فرنسا، الموارد الانسانية وإيجاد فرص عمل وتدريب أميركا، الصحة العامة ايطاليا، العناية بالاطفال السويد، البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية أوروبا. تقدّم مركز العلوم الاجتماعية التطبيقية أوسلو بدراسة حول أوضاع اللاجئين في الضفة والقطاع. ووضع الديبلوماسي الفرنسي برنار باجوليه دراسة حول "لمّ الشمل" وصلت الى الخلاصات التالية: زيادة عدد المستفيدين من السياسة الاسرائىلية الراهنة، تحسين الاجراءات الاسرائىلية وزيادة شفافيتها، تدابير للتسهيل، تدابير لتوسيع الإطار، تدابير لمنع ظهور حالات إبعاد جديدة. ووافق المندوب الاسرائىلي يوسي بيلين على بعض هذه الاستنتاجات ولكن بشكل لا يلبّي الحدّ الأدنى من التوقعات. لجنة مراقبة التسلّح ترأست أميركا وروسيا لجنة مراقبة التسلح والأمن الإقليمي. كانت اسرائيل تريد للدول الاقليمية فقط أن تشارك فيها لكنها لم تنجح في فرض رأيها. وتمثّل الفلسطينيون في الجولة الثالثة ايار 93 وكذلك الأممالمتحدة. وانتظرت الدول الاوروبية الجولة الرابعة في قطر حتى يسمح لها بالتواجد. قادت مصر تيار المطالبة بوضع السلاح النووي الاسرائىلي على جدول الاعمال. رفضت اسرائيل طبعاً مقترحة سلسلة إجراءات لبناء الثقة: الإبلاغ المسبق عن المناورات الكبرى، خطوط اتصال ساخنة، آلية لتدارك الأزمات، اجراءات تحقق. وهنا ايضاً حظيت اسرائيل بدعم أميركي مطلق عكس نفسه في الاجتماعات ونتائجها. عقدت اجتماعات فرعية لدراسة آلية التحقق القاهرة، والاتصالات لاهاي، وتبادل المعلومات اسطنبول، ولكن البحث تركز في الجولة الرابعة في تشرين الثاني نوفمبر 1993 على تقسيم العمل الى "سلة عملية" و"سلة مفهومية". جرى درس "السلة العملية" في ثلاثة اجتماعات. الاول في كندا وتناول القضايا البحرية تجنّب الحوادث، الإنقاذ...، الثاني في هولندا وتركز على الاتصالات شبكة بدأت العمل في آذار - مارس إنطلاقاً من مركز منظمة الأمن والتعاون في لاهاي تمهيداً لإقامة محطتين في تل أبيب والقاهرة، والثالث في تركيا عن تبادل المعلومات العسكرية، بما في ذلك بطاقات التعريف بأبرز القيادات. "السلة المفهومية" كان حظها 3 اجتماعات ايضاً جرى تخصيصها لوضع تصوّر للمبادىء التي ستتحكم بالعلاقات الامنية في المستقبل وخطة مفاوضات لانشاء مؤسسات وأواليات التعاون الأمني الشرق أوسطي. ونتج عن هذه الاجتماعات قرار بانشاء مركز في الاردن جولة تونس 94. كما نتج عنها مشروع اعلان مبادىء أحبطته المملكة العربية السعودية مرتين. لجنة التنمية الاقتصادية أشرف الاتحاد الاوروبي على عمل هذه اللجنة التي تحدد هدفها بالسعي الى "إيجاد نمط من علاقات المنفعة المتبادلة اقليمياً وبناء منطقة ازدهار اقتصادي من أجل حماية السلام". وأمكن لها، بعد ثلاثة اجتماعات، تحديد عشرة عناوين مع دول مسؤولة عنها: الاتصالات والنقل فرنسا، الطاقة الاتحاد الاوروبي، السياحة اليابان، الزراعة اسبانيا، الأسواق المالية بريطانيا، التجارة المانيا، التدريب أميركا، الشبكات أوروبا، المؤسسات والقطاعات والمبادىء مصر، المكتبات كندا. وتعتبر "وثيقة كوبنهاغن"، بعد اعلان المبادىء الفلسطيني - الاسرائىلي، أبرز إنجاز نظري لهذه اللجنة خصوصاً وأنها تحدد 33 مشروعاً للتعاون الاقليمي. والملفت ان الاجتماعات شهدت توتراً أوروبياً - أميركياً اذ ان واشنطن حاولت جعل أوروبا تدفع على أن يكون الإشراف على الإنفاق أميركياً. غير ان المبادرة بقيت مع الاتحاد الذي نجح بعد اجتماعي روما والرباط في تحديد مبادئ عامة تركز على تشجيع القطاع الخاص والتجارة الاقليمية وتحرير تحرّك الأشخاص والبضائع والرساميل. المعروف ان أميركا ضغطت من أجل إنشاء "بنك التنمية الشرق أوسطي" لكن الاوروبيين والعرب اعترضوا وأفشلوا المحاولة برغم القرار المتخذ في قمة عمان. نظّمت فرنسا عدداً من ورشات العمل الخاصة بالنقل في باريس 94، ثم في القاهرة. ودُرست فوائد الربط الكهربائي في اجتماع استضافته النمسا أواخر 94 ثم في آخر عقد في تل أبيب. وقدّمت ايطاليا افكاراً حول شبكة أنابيب الغاز والتعاون النفطي. وكذلك تمّ الاهتمام بما سمّي "مشاريع التنمية المندمجة" وبانشاء مجلس اقليمي لرجال الاعمال. وتقدم معهد البحث الاقتصادي في ميونيخ بدراسة عن "إمكانات التعاون والتجارة في الشرق الاوسط"، ووضعت غرفة التجارة العربية - الألمانية دراسة تحت عنوان "تدابير لتسهيل حرية التجارة في الشرق الاوسط". وأعلنت سويسرا أنها كلفت فريقاً لدراسة سبل الاندماج الاقليمي يشرف عليه رئيس سابق ل"الغات". ونجحت اليابان في إيجاد "المنظمة الشرق أوسطية والمتوسطية للسفر والسياحة" عمان، 95، وعرضت اسبانيا خطة ل"التنمية الزراعية الشرق أوسطية في اطار اقليمي"، كما دافعت بريطانيا عن مفاهيم تعزيز التعاون بين بورصات المنطقة... يدل هذا الاستعراض السريع ان شيئاً ما حصل في المفاوضات الاقليمية وان اجتماع موسكو يمكنه التأسيس على كثير مما تحقّق حتى الآن. ولكن هذا التأسيس سيبقى بالغ الهشاشة، كما دلّت التجربة، طالما ان المفاوضات الثنائية لم تتقدّم... وحتى لو تقدّمت فإن هذا "البنيان الافتراضي" ميال لصالح اسرائيل والولايات المتحدة الى درجة تجعل من المستحيل تحويله الى ركيزة لسلم دائم.