محمود الكايد. خارج النص. المؤسسة العربية، بيروت، ومكتبة الرأي، عمان. 1999. 222 صفحة. لم تثلم مساعي محمود الكايد وهو يرنو في كتابه الجديد "خارج النص" الى الخروج "عن مألوف الرواية الرسمية في سرد الأحداث"، نشدانا ل"لكتابة حارة مغايرة تتحرك بحرية خارج نص المألوف والمتوقع والمعهود". فلقد أصابت مساعيه الهدف، وتمثلت روح التاريخ، وأخلصت في رصد سلسلة من الوقائع والأحداث لا يمكن رواية التاريخ المعاصر للأردن، وما حواليه، بمعزل عن الاسترشاد بقناديلها، والاهتداء برؤاها التي تفتقت عن ذهن شاهد عيان روى بنزاهة وشجاعة وجرأة لافتة للانتباه. والكايد، الملقب ب"عميد الصحافة الأردنية"، في صوره القلمية لست وثلاثين شخصية سياسية وثقافية وفكرية واقتصادية ونضالية وعامة، ذهب مسيّجا بروح المغامرة والبوح نحو انتهاك المسكوت عنه، وهتك أسراره. ولا غرو في ذلك، فالكاتب اعتاد على خوض المواجهات منذ كان عضواً في الحزب الشيوعي الأردني حيث أمضى 8 سنوات في سجن الجفر الصحراوي. واستطاع محمود الكايد 63 عاماً أن يحقق في الصحافة الأردنية فتحاً يشار إليه بالبنان من خلال صحيفة "الرأي" التي قاد سفينتها طوال ما يقارب الثلاثين عاماً حتى أوصلها الى أن توصف ب"أهرام الأردن"، تشبيهاً لها بصحيفة "الأهرام" المصرية العريقة. وكان في مسيرته هدفاً للحكومات المتعاقبة التي كانت تتعارض مع خطه السياسي فتعزله من منصبه. وكانت تجربته الأولى في العزل عام 1989 واستمرت سنة، وكانت الثانية قبل نحو سنتين وما تزال مستمرة، والكايد خارج نصه الذي أقام أركانه بالعزم والمثابرة والجهد الصحافي اللامع. وتكمن أهمية "خارج النص" ليس فحسب في غزارة المادة التاريخية التي يضمها بين دفتيه بصفحاته المائتين واثنتين وعشرين، وانما في نقده لشخصياته، وابانته مواطن ضعفها التي يلتقطها الكايد في سبيل منح كتابته حرارة ودهشة وبث التشويق في وجدان قارئه. ومن واقع معايشته للشخصيات التي تناولها، لا يتوقف الكاتب عن تزويدنا بمعلومات اضافية عن اعلام نكتشف أن معرفتنا بهم، بعد قراءة "خارج النص"، كانت ناقصة. ولعل هذه الفضيلة "تشير الى رؤية صاحبها النافذة، ومعرفته العميقة بالحياة والناس" على ما يقوله خالد الكركي في تقديمه الكتاب. ويرى الكركي بأن ما يجمع هذه الكوكبة من النخبة في "خارج النص" أمر واحد: "اذ يلتقون عند تخوم العصامية والنضال والأمة وفلسطين، ويلتقون عند رايات الحرية والرفض، وكأنهم جيل واحد صلب ومعذب". ويلتقط مؤلف الكتاب في كل شخصية الوهج المتدفق من كيانها، ويضع يده على عصبها النافر. ففهد الفانك "يخطط لمقالاته وكأنه يضع استراتيجية قتالية محكمة"، وممدوح العبادي "دائم الحركة وسريعها" و"يحلم كل صباح بمدينة جميلة"، في حين أن توجان فيصل "تخوض المعارك غير هيابة بنتائجها"، اما مؤنس الرزاز فهو "الممزق" و"الغامض والساخر بسوداوية وعمق وغضب مكبوت". ولا يختلف اثنان على أن ناصر الدين الأسد "واحد من أكثر بناة الثقافة العربية المعاصرة شغفاً بالتأصيل" كما لا يختلفون على أن روكس العزيزي "غزير المعرفة، محب للانسان ولبني البشر عموماً، خافت الصوت، لكنه ساحر البيان، بليغ القول". وليس من مطرح للخلاف على أن أمين عام الحزب الشيوعي الأردني يعقوب زيادين "من الأشجار الأردنية العتيقة التي ظلت صامدة بفروعها السامقة"، وان صبحي جبري "صارم وحازم وشديد المحاسبة والتفتيش عن ذمم الزبائن" وأنه "مثال يحتذى في حبه للعمل". ورغم ما يوصف به أمين عام حزب جبهة العمل الاسلامي اسحق الفرحان من انه "وسطي وتوفيقي ولا يُغضب أحداً"، لكنه "ظل موضع تقدير واحترام الجميع من داخل حزب الجبهة ومن خارجها"، في حين يجمع الكثيرون على أن عبدالمجيد شومان "لا يحب البهرجة ولا البروتوكولات ولا يحاول أن يكون غير الفلاح ابن الفلاح الفلسطيني"، كما يجمعون على أن ليلى شرف كانت وما تزال "تدافع عن الصحافة والصحافيين، وتتصدى للذين يضيقون بالنقد الموجه لهم". اما المراقب السابق لجماعة الاخوان المسلمين في الأردن محمد عبدالرحمن خليفة فرغم وصفه "بالمحافظ الذي لا يميل الى التجديد أو التغيير"، لكنه "ظل صامداً وثابتاً معروفاً بنزاهته وترفعه وحبه لعمل الخير"، وكذلك كان الراحل عاكف الفايز "محباً للحياة وصداقته حميمة، ورفقته لطيفة، ونزعته أردنية أصيلة، وتوجهه العام قومي عربي بلا أدنى تعصب أو انغلاق"، في حين أن أحد مؤسسي حركة القوميين العرب حمد الفرحان "صريح وجريء، لا يهاب أحداً لدى ابداء رأي أو طرح فكرة"، فضلاً عن كونه "واحداً من الرواد الذين تركوا بصمات بارزة في تاريخ الوطن سياسياً وتربوياً واقتصادياً واجتماعياً". وإذا كان هناك من ركائز للبلد، ورجالات كبار واكبوا تاريخ الأردن يوماً بيوم وسنة بسنة، فإن محمد عودة القرعان واحد منهم، على ما يقوله الكايد، وله "صفحات بيضاء في الصدق والأمانة والنزاهة والانتماء"، بينما ظل بشير الصباغ "رجل العلم والمعرفة" وكان "الطابع العام لحياته الانخراط في سلك التربية والتعليم، حيث انقطع لهذه المهمة الجليلة"، كما انقطع لها أحد أقطاب حزب التحرير الاسلامي سابقاً عبدالعزيز الخياط "المستنير المنفتح على مختلف الثقافات والمدارس الفكرية"، والذي "يقول الشعر ويحفظه"، ويشترك مع الخياط في الشعر والأدب عبدالرحمن شقير صاحب "الشخصية الفذة، الجريء، والخطيب المفوه، يشهد له بذلك شارع المهاجرين في عمان، حيث الخطابات الحماسية في المظاهرات والمهرجانات، حتى ان كلوب باشا ذكره في أحد مؤلفاته كخطيب تحريضي من الطراز الأول". اما نقولا زيادة فهو "منصرف في حياته للتعلم والبحث والكتابة والتأليف" و"ملم بتاريخ الشعوب والبلدان ويعتبر مرجعا في التاريخ العربي والاسلامي"، في حين ان بائع الكتب الشهير حسن أبو علي يكمل عمل زيادة بتسويق الكتب وتقديمها للقراء "بحس المثقف لا بحس البائع"، وبالتالي لا غرو في أن يكون أبو علي "صديق المثقفين وذاكرتهم". ويوصف يحيى حمودة بأنه "واحد من المناضلين الأفذاذ الذين عاشوا حياة حافلة بالكد والسعي والجهاد لتحرير البلاد وتخليصها من الغزاة المحتلين، لذلك سيبقى علما من أعلام النضال الوطني والقومي بكل صدق وشرف ورجولة". وكذا كان أحمد صالح أبو قورة "شوكة في حلق أميركا واسرائيل معتبرا ان "أميركا هي اسرائيل لأنها تعمل كل ما يخدم كيانها المصطنع". ويعتبر احسان عباس "من العمالقة الكبار في ميادين الأدب والفكر والتاريخ"، لأنه "قدم لأمته الكثير وأعطى من جهده ما ستظل تذكره الأجيال"، كما ستذكر بهجت أبو غربية بوصفه "مناضلاً فلسطينياً صلباً وشخصية قومية عروبية حتى العظم"، فضلاً عن أنه "راهب أو قديس أو شيخ في رحاب الوطنية والقومية". اما محمود السمرة فإن "الكل يعترف له بالفضل من طلبة ومتعلمين وباحثين ودارسين"، فهو "واحد من رواد الثقافة والمعرفة". واما "الظاهرة المتفردة" فهو محمد باجس المجالي لأنه "عنيد، متمرد، صريح، مناكف، مشاغب. لكن النزعة الوطنية والقومية هي الغالبة على كل مواقفه"، على أن مسلم بسيسو "ذاق الغربة والتشرد، وذاق طعم الحياة حلوها ومرها، لكنه ظل الوطني والقومي الشريف، المحب لوطنه الأصلي فلسطين. والمحب لأمته العربية جمعاء بلا مغالاة، وبلا ادعاء". وتوصف املي نفاع ب"أخت الرجال" حيث ان "كل التيارات والهزات والانقسامات التي عصفت بالحزب الشيوعي الأردني وبالقوى والمنظمات السياسية الأخرى لم تؤثر بها، ولم تثنها عن طريقها ومسيرتها في التحرر والتقدم والسلام". وساهم مراقب جماعة الاخوان المسلمين عبدالمجيد الذنيبات وما يزال "في الحفاظ على موقع الاخوان البارز في المعادلة السياسية الأردنية، وتمسك بنهج التوازن والاعتدال في فهم المعارضة بوصفها رؤية عقائدية ضد السياسات الحكومية وليس ضد النظام". اما "مانديلا الأردني" حاكم الفايز امضى زهاء 24 عاماً في السجون السورية فقد اشتبك "في صياغة ملحمة الصمود والحرية" مع حكاية الزعيم الوطني الافريقي نيلسون مانديلا "لو ان القضبان تحكي". وعُرف الراحل أحمد الطراونة بأنه "وسطي معتدل ومحافظ لم يعرف المعارضة للنظام والدولة، بل على العكس كان موالياً ومنتمياً للعرش والنظام كأفضل ما تكون الموالاة ويكون الانتماء. اما نذير رشيد فكان "حاد المزاج، سريع الغضب، مندفعاً بعض الشيء، مع ميل الى المرح والفكاهة". وتقيس بثينة جردانة ثروتها الوحيدة بمدى حب الناس لها، وهي "قارئة ومطالعة من الطراز الأول... تشتعل حماسة، وهي محاورة لبقة وهادئة تحب الجميع". اما "النورس الجريح" الراحل عبدالرحمن الكيالي فقد كان شاعراً وأديباً "يساري الاتجاه، ويؤمن بالنهج العلمي، ومن مؤسسي نقابة المعلمين الأردنيين في الخمسينات". وضاع تاريخ ميلاد "خنساء فلسطين" فدوى طوقان "في ضباب السنين" لكن الشعر خلده حيث تمكنت من أن "تنتزع للمرأة العربية موقعاً مرموقاً حفرته بأظافرها ومعاناتها وصبرها الصامت العميق". اما توفيق النمري فهو "في الغناء الأردني شيخ ورائد، وله في كل محطة اذاعة عربية بصمة تشير الى موهبة أصيلة وابداع ثري"، اطال الله "في شجنه ليبقى يطرز الانواء ببهاء الحانه وبديع اغنياته". وفي احدى الصور القلمية يصف رئيسُ تحرير صحيفة "الحدث" الأردنية الاسبوعية نضال منصور، صاحبَ "خارج النص" بالقول "اذا كان الرؤساء تسقطهم العواصف، فإنه الرئيس الذي ظل صامداً منذ ما يزيد على العشرين عاماً... تغيرت الاسماء، تغيرت الأزمنة، وبقي في قلب المعركة... انه المحارب الذي ما يزال يشهر قلمه".