ربما كان أفضل ما قدمته الأحزاب السياسية المعارضة العربية للحياة السياسية والعامة، كفاءات عالية في الإدارة والقيادات بعد تركها هذه الأحزاب ما كانت لتكتَشف أو لتؤدي دورها لولا تجربتها الحزبية. وبرغم أنه إنجاز غيري مقصود للأحزاب السياسية فإنه يفوق في أهميته وجدواه معظم، إن لم يكن كل، الأهداف والبرامج التي ارتبطت بهذه الأحزاب. ستعرض هذه المقالة للتجربة الأردنية، وهي تجربة ربما كانت تصلح للتعميم على مستوى الدول العربية. فقد كانت الحركات القومية واليسارية تسيطر على الساحة السياسية في الأردن، وبرغم أن الحكومة حظرت نشاطها العلني منذ 1957 فقد ظلت تقود النقابات والطلاب وجزءاً كبيراً من الجمهور والشارع الأردني. وانتقل من صفوفها إلى مواقع متقدمة في الحكومة عدد كبير جداً، منهم قادة الانقلاب العسكري الفاشل الذي حدث عام 1957، مثل نذير رشيد الذي رجع من لجوئه في سوريا ليكون مديراً للمخابرات! وعضواً في مجلس الأعيان ووزيراً للداخلية، ومعن أبو نوار الذي كان أحد الضباط الأحرار وقاد تمرداً في الجيش يساند الحركة السياسية الانقلابية، ثم عاد إلى الأردن وصار وزيراً للأشغال ثم نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام. ويُعد الدكتور فهد الفانك شاعر القبيلة بلا منازع، فهو أجرأ وأقوى من يروج سياسات الحكومة، ويحظى بتأثير إعلامي واسع، ويكتب يومياً في أهم موقع في الصحيفة الأردنية الأولى "الرأي". وحين احتاج مرة وزير إعلام سابق وعضو مجلس أعيان حالي أن يرد على الفانك، قال مقدماً لمقالته ان الرد على شخص في مثل حظوة وسطوة الفانك يُعد مغامرة. والفانك كان أحد قادة حزب البعث اللامعين، وكان شاباً ذكياً نشيطاً جعلته مواهبه يتقدم على كبار البعثيين وكهنتهم وينال حسدهم. ويحتل مواقع متقدمة في الصحافة الأردنية فريق من الكتاب والصحافيين الذين كانوا إلى عهد قريب معارضين يساريين وأعداء ثوريين للحكومة، مثل محمود الكايد نقيب الصحافيين الأسبق ورئيس تحرير صحيفة "الرأي" الذي أمضى سبع سنوات في السجن بسبب انتمائه الى الحزب الشيوعي، وصالح القلاب وطاهر العدوان وعريب الرنتاوي الذين كانوا حتى عهد قريب مناضلين في صفوف المنظمات الفلسطينية. ويصف البعض رئيس الوزراء السابق الدكتور عبدالسلام المجالي بأنه أول بعثي أردني، وذلك عندما كان على مقاعد الدراسة الجامعية في دمشق أوائل الأربعينيات. وكان أيضاً في صفوف البعث أحمد اللوزي رئيس الوزراء السابق ورئيس مجلس الأعيان. وشغل منصب نائب رئيس الوزراء بعثيون كثيرون منهم علي السحيمات، وذوقان الهنداوي عضو مجلس الأعيان وأحد أهم وزراء التربية والتعليم في الأردن، في حين لم يصل إلى الوزارة في تاريخ البعث بصفته الحزبية سوى شخص واحد هو عبدالله الريماوي وزير الدولة للشؤون الخارجية في حكومة النابلسي عام 1956 - 1957. وقدمت الحركة الإسلامية للحكومة قائمة طويلة من القادة والوزراء والصحافيين منهم أحمد عبيدات رئيس الوزراء 1984 - 1985 ومدير المخابرات العامة لفترة طويلة، وعبدالرؤوف الروابدة رئيس الوزراء الحالي، وكامل الشريف وزير الأوقاف السابق ومؤسس ورئيس مجلس إدارة صحيفة "الدستور" اليومية، الصحيفة الثانية في الأردن، وعبدالعزيز الخياط الذي كان أحد قادة الأخوان المسلمين ثم خرج منهم ليؤسس مع الشيخ تقي الدين النبهاني "حزب التحرير" وأمضى في السجن أحد عشر عاماً، ثم صار وزيراً للأوقاف والشؤون الإسلامية وعضواً في مجلس الأعيان. وقد بدأ الزميل ياسر أبو هلالة عمله الصحافي في صحيفة الأخوان المسلمين "الرباط" حيث نشر أول عمل صحافي في حياته، ثم عمل في صحيفة "السبيل" الإسلامية لمدة ثلاث سنوات قبل أن يقفز إلى صحيفة "الرأي" ف"الحياة"، ويتحول معها أيضاً بعيداً عن الحركة الإسلامية، أو كما وصفه حازم صاغية مرة: اكتشف نفسه خارج الأسرة الأخوانية. ويقترب منه سميح المعايطة الذي ابتدأ حياته الصحافية في "الرباط"، صحيفة الأخوان المسلمين ثم "السبيل"، وترك الأخوان وصحافتهم ليعمل مدير تحرير في صحيفة "العرب اليوم". وقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي وهزيمة اليسار في العالم إلى تدفق كثير من اليساريين على الحكومات جعل العرض أكثر من الطلب. ففي حين كانت الحكومات تتصيد الحزبيين وتحاول استدراجهم وتغريهم بشتى الوسائل، صارت القيادات اليسارية تبادر متوجهة الى الحكومة تخطب ودها وتتقرب إليها. وقد انخرط في صفوفها الثالثة والرابعة جموع كبيرة من قيادات المناضلين والمعارضين. الظاهرة بمجملها ليست سيئة. فالأحزاب والجماعات باستقطابها لشبان الجامعات تتيح للأذكياء والقياديين منهم فرص العمل الجماعي والتعبير عن مواهبهم والمشاركة العامة، وهي فرص لا توفرها الحكومة لجماعاتها إلا في سن متقدمة لا تكون مناسبة للتدريب. كما أن تقدم السن وتنوع الاهتمامات ومجالات العمل تجعل الأحزاب عاجزة في كثير من الأحيان عن الاستمرار في استيعاب عناصرها وكوادرها. ويبدو أن الوضع الصحيح لتركيبة الأحزاب هو أغلبية شابة وأقلية من الكهول. والمشكلة اليوم هي أن الدول ستفقد، بسبب ظاهرة أفول الأحزاب، مصدراً مهماً لاختيار الكفاءات وفرزها، يجعلها مضطرة لإنشاء أحزاب وجماعات تؤدي على الأقل الى تجميع الشباب وتدريبهم على العمل القيادي والعام. فقد ثبت أن الأوعية الرسمية من مدارس وجامعات لم تنجح في مثل هذه المشروعات.