اذا كانت الرواية فن القرن التاسع عشر، فإن السينما هي فن القرن العشرين بامتياز. فلكل منا حكايته الخاصة والحميمة مع السينما، التي لا تشبه اية حكاية اخرى، ذلك انها الاكثر بقاء في الوجدان والمطرح الأرقى للتخييل: ليس لجهة ما يروى في الفيلم، بل في مستوى آخر من الخيال، في تلك اللحظة النادرة، حين يخرج المشاهد من الصالة، وقد قرر ان يكون هو ذاته بطل الفيلم، بوسامته ومغامراته لتحقيق الأنا الغائبة المثقلة بالهموم، اذ ينفض الغبار عن مرآته المغبشة لتتكشف صورة البطلة امامه، والتي لا تشبه ابنة الجيران حتماً، فقد تكون مارلين مونرو او غريتاغاربو، او شارون ستون او سعاد حسني وربما ليلى علوي، حسب مخيلته هو، وأهوائه الخاصة. واذا لم يكن هذا المشاهد من النوع الرومانسي او العاطفي، فأمامه مرآة اخرى تتكشف هي الاخرى عن صورة "رامبو" مثلاً، او فريد شوقي، او عادل امام، وفي هذه الحالة، لن تكون بانتظاره امرأة ملائكية، بل زوجها الشرير او والدها "العمدة" او رب العمل الظالم، وهو بكل الأحوال على أتم الجاهزية لتحطيم عظامهم جميعاً بقدراته الخارقة. هكذا صنعت السينما طوال قرن، حياة اخرى، اكثر تأثيراً في مخيلة المشاهد، ففي "مصنع الأحلام" تجد ما تريد: الرقص والدموع، العنف والقتل، الفراق واللقاء، الأشواق والقبلات، وليس امام المشاهد الا ان يختار ابطاله المفضلين الذين يعبّرون عن غيابه، ويحققون احلامه وتطلعاته التي تتكسر على صخور الواقع في كل مرة، لكنه يختزلها في صور معلقة على الجدران، هي اختزال لذاكرته وتسجيل للحظة استثنائية لا تنسى. وهنا لن تستغرب ان تجد في غرفة الحارس الليلي او طالبة الثانوية، او زجاج سيارة ما، صور هؤلاء النجوم، حيث سيشرد كل واحد من هؤلاء في انشاء سيناريوهات خاصة به وحده هو والبطلة او هي والبطل، اذ ليس بالضرورة، استعادة ما كان يجري فعلاً في الشريط الحقيقي للفيلم، فعليه هو الآخر ان يكتب قصته المختلفة، مستبعداً مقص الرقيب لإذكاء مخيلته الى حدودها القصوى، فللسينما فضل واضح في تفعيل المخيلة واستحضار احلام يقظة لا تنتهي. من هنا تسمع ان احدهم شاهد هذا الفيلم او ذاك اكثر من عشر مرات، ليس لاستعادة حكاية الفيلم كما هي، بل لتركيب فيلمه الخاص الذي ما زال يتعثر في بعض مشاهده المقترحة التي لا تزال صعبة التحقق، فالسينما في احد تجلياتها تقوم بايقاظ المكبوت مثلما تقوم ايضاً بالغائه وتحويل مجراه الى اقنية اخرى. وبقدر ما تبدو السينما في صورتها البرّانية، فن الفرجة الجماعية كطقس، هي في جوهرها، حالة فردانية، فما ان تظلم الصالة، وتدور "بكرة" الفيلم، حتى يجد المشاهد نفسه وحيداً، محتبس الأنفاس، لا ينظر الى جاره في المقعد، فهو الآن وجهاً لوجه مع البطل او البطلة، حيث تتشكل صورة غير مرئية لعلاقة المشاهد بما يجري على الشاشة البيضاء، وهي اللحظة الاكثر خيالاً، اذ في الوقت ذاته، تستنفر مخيلة الجماعة، ويغادر المشاهدون جميعاً مقاعدهم لاحتلال مكان البطل او البطلة، وكأن الصالة فارغة تماماً الا من تلك الأرواح الهائمة في العتمة. وحين تُعلن نهاية الفيلم وتنار الصالة، ما عليك سوى مراقبة الوجوه التي تبدو مرتبكة وهي تغادر اثامها او لا تزال في حالة تلبس، قد تكون توحداً او استياء من النهاية، وهذا ما يؤجج حالة الصمت او الصفير او تحطيم المقاعد، فقد ذهب السيناريو بعيداً عما حاول هذا المشاهد او ذاك كتابته في المخيلة. مرة، اختزل فيلم "سينما براديسو" او "سينما الجنة" علاقة المشاهد بشريط الفيلم والتاريخ من خلاله لحيوات البشر، لكن السينما ستظل الباب الأوسع للمخيلة البشرية، مهما اقترحت التطورات التقنية من افكار جديدة، فثمة روح خفية تتسرب من الشاشة البيضاء الى ذاكرة المشاهد لتوقظ حواسه الخمس على الدوام.