نشرت "الحياة" في عددها 13427 الصادر يوم الأحد في 4 رمضان 1420ه 12/12/1999م - في صفحة: تراث -، مقالاً للكاتب المصري: حسين أحمد أمين، عنوانه: "سبل انتقاء الصحيح من الحديث". ولم تذكر الصحيفة ان المقال المذكور ليس جديداً، فقد سبق لصاحبه ان نشره في الصفحة 71 الى الصفحة 73 من كتابه "دليل المسلم الحزين"، الطبعة الثالثة الصادرة عن مكتبة مدبولي عام 1987. وتكرر الأمر نفسه، في مقاله "الجذور الستة للأحاديث الموضوعة"، المنشور في "الحياة" في 31/12/1999 العدد 13445، فهو مسلوخ من كتابه المذكور، ما بين الصفحتين 54 و65 سلخاً حرفياً، ما عدا خمسة أسطر في المقدمة، وعبارات محدودة جداً للربط بين الفقرات، وهو ربط اضطر اليه الكاتب، لأنه قدم صفحات وأخر أخرى، وهذا هو الفارق اليتيم، بين المقال المنسوخ وأصله في الكتاب. والذي أعلمه علم اليقين ان "الحياة" من الصحف التي تعنى بأعراف المهنة وتقاليدها، وتقضي بعدم نشر ما سبق نشره بأي وسيلة، إلا لغرض محدد وفي نطاق ضيق، مع توثيق النشر السابق، والإشارة الى سبب إعادة النشر. لذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد، هو ان الكاتب لم يصرح لها بأن مقاله منشور في كتاب صدرت منه عدة طبعات. فالقرائن واضحة في هذه النقطة، لأن هذه الممارسة من صاحب المقالات ليست جديدة. وكنت أقمت عشرات البراهين على الممارسة ذاتها في كتابه المذكور، الذي لم يكن سوى حشد فوضوي لآراء عدد كبير من غلاة المستشرقين. ومن أراد التأكد من صحة ادعائي، فليرجع الى كتابي "اسلام آخر زمن"، الذي صدرت طبعته الثانية عن مكتبة العبيكان، وليقف - بخاصة - عند الباب الثاني، وعنوانه "سارق الأكاذيب"، ويبدأ في الصفحة 243 وينتهي بالصفحة 435. خصصت الفصل الثاني من الباب المشار اليه، لبيان الحقائق المتصلة بالسنّة النبوية المطهرة، وهي الحقائق التي زيفها مؤلف "دليل المسلم الحزين" أو - ان شئنا الدقة - زيفها الذين انتهب حسين أحمد أمين أفكارهم ونسبها الى نفسه. ولأن المجال هنا لا يتسع لمثل ذلك البسط المفصل، يكفي بيان الحقائق الآتية تصحيحاً لما جاء في مقاله الأول في "الحياة" المأخوذ من كتابه: 1- السنّة النبوية تفسر القرآن فتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، أما ادعاء الكاتب انها تنافسه فليس صحيحاً. 2- المسلمون لا ينظرون الى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه قائد سياسي أو مصلح اجتماعي يتصرف من عنده، لذلك لا يصح الزعم عن دراسة ما سماه الكاتب "فكر النبي". فمحمد صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبلغ ما أوحاه الله اليه بلفظه القرآن الكريم أو بمعناه الأحاديث النبوية الشريفة. 3- يرحي الكاتب - ضمناً - ان البخاري ومسلم بن الحجاج هما رواد علم الحديث… ومن المقطوع به انه سبقهما علماء أعلام كبار من الصحابة والتابعين. 4- يزعم ان المعيار الرئيسي الذي أخذ به علماء الحديث هو صحة السند، وفسر صحة السند بالتحقق من تقوى رجال الإسناد وسلامة طويتهم، وألا يكون قد عرف عنهم كذب متعمد على النبي صلى الله عليه وسلم ناجم عن قلة دين أو هوى حزبي… ويدعي الكاتب ان هؤلاء العلماء يقبلون الحديث ما دام رجال الإسناد تقاة مهما كان مضمونه، وأنهم أغفلوا دراسة البواعث التي ربما دفعت مختلقي الأحاديث الى اختلاقها… ويزعم - بجرأة لا يحسد عليها - ان علماء الحديث قبلوا، تبعاً لذلك، أحاديث مختلفة تتضمن خرافات، أو تجافي المنطق، أو التاريخ الثابت… وضرب لذلك مثالاً بحديث زعم فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم تنبأ بظهور أبي حنيفة في العراق. وفي هذا جملة من المفتريات، أبينها في الآتي: * انه سبق للكاتب نفسه ان ادعى نقيض كلامه الحالي، فقد زعم في الصفحة 60 من كتابه، ان علماء الدين كانوا يقبلون الحديث مهما كان سنده واهياً، ما دام مضمونه يتفق وتعاليم الدين. فهم - عنده - يعتمدون السند وحده تارة، والمتن وحده تارة أخرى. وافترى عليهما مرتين. وآسف لاستخدام كلمة الافتراء هنا، لأنها وصف لواقع، وليس لما فعله حسين أمين وصف آخر. * ان علماء الحديث يبحثون كلاً من سند الحديث ومتنه، فلا تلازم عندهم بين صحة السند وصحة المتن، ويصح أحدهما ولا يصح الآخر، فيرفضون الحديث لأي علة قادحة في اي منهما، أو فيهما معاً. * الشرطان الرئيسيان في رواة الحديث: الصدق والضبط. أما سلامة الطوية فأمر لا يعلمه الا الله، ونسبة المؤلف ذلك الى علماء الحديث فرية لا أصل لها. * الكذب في الإسلام من أكبر الكبائر، أما الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فأكبر وأفظع. وكل كذب عليه صلى الله عليه وسلم جريمة كبرى تقدح في عدالة صاحبها، أما تخصيص الكاتب أنواعاً من ذلك الكذب، ليوحي بقبول العلماء أصنافاً من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانه الكذب والبهتان جهاراً نهاراً. فرواية الكاذب على النبي صلى الله عليه وسلم مرفوضة حتى لو تاب فاعلها. بل ان بعض العلماء لا يقبلون رواية أي شخص يكذب في كلامه هو بين الناس، حتى بعد توبته. فالكذب المتعمد على النبي قلة دين قولاً واحداً. * من شواهد اهتمام علماء الحديث بمتن الحديث النبوي، قول الإمام ابن الجوزي: "اذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول، فاعلم انه موضوع". وواضح من كلام ابن الجوزي أنه ينقل عمن سبقوه، فالقاعدة أقدم من زمنه. وضع العلماء أكثر من 100 أصل وقاعدة في نقد متن الحديث، فمن العلامات التي حددوها لاعتبار الحديث موضوعاً أي مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم ركاكة اللفظ، ومخالفة بدهيات العقل، ومخالفة الحس والمشاهدة، أو بدهيات الطب، أو السنن الإلهية في الكون والإنسان، أو الحقائق التاريخية الثابتة، أو إذا انفرد راو واحد برواية عن أمر وقع بمشهد جمع عظيم،… ومن رغب التوسع فليراجع: الباعث الحثيث ص 76-87، والمنار المنيف: ص 19 وما بعدها، والسنّة ومكانتها لمصطفى السباعي ص 271-272، واهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً للقمان السلفي ص 321…. * بعد ذلك كله: كيف يصح زعم الكاتب ان علماء الحديث ارتضوا نسبة أحاديث الى النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن خرافة، أو تتناقض مع التاريخ الثابت؟ * أما المثال الذي ضربه عن الإمام أبي حنيفة، فإنه دليل إضافي آخر على انعدام الأمانة. وإلا فهل من كاتب يتهم علماء الحديث بقبول حديث، ذكروه منذ قرون بعيدة في الأحاديث الموضوعة أي المكذوبة. فقد أورده الإمام ابن عراق الكناني 907 - 963 هجرية، في كتابه الشهير: "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة"، في الصفحة 30، من الجزء الثاني، "طبعة 2 دار الكتب العلمية بيروت - 1401ه/1981م". وسبقه الى ذلك الإمام السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية، فذكر الحديث المذكور في الموضوعات "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة - ج1-ص457 - ط3- دار المعرفة ببيروت - 1401ه/1981م". * يدعي الكاتب ان الفقهاء الأتقياء فوجئوا بقلة الأحاديث النبوية لاستنباط الأحكام منها. وهذا نقيض الحقيقة تماماً، فالإمام البخاري - مثلاً - اختار جامعه الصحيح من نحو 600 ألف حديث. أي ان المرويات كثيرة جداً جداً، وقام علماء الحديث بنخلها لتمييز الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع فيها. حتى ان جهدهم الجليل جعل المؤرخ اللبناني الكبير أسد رستم، يزهو بعلم مصطلح الحديث على الغرب. أما كيف يتفق وصف الفقهاء بالتقوى، مع اتهامهم بالكذب وأي كذب؟ انه على رسول الله بل على الله عز وجل فذاك أمر لا أدري كيف يرتضيه عاقل، إلا على طريقة: شفيق يا راجل… الطويل القصير… التخين الرفيع… ولا حول ولا قوة الا بالله. وأخيراً اذا كان لدى حسين أحمد أمين هذه "الجرأة"، والإصرار عليها، وإعادة نشرها، مع أننا في عصر ثورة الاتصالات والانترنت، فهل يظن ان علماء الحديث كانوا على هذه الشاكلة؟ هذا وإنني مسؤول عن كل كلمة قلتها أمام القراء والمثقفين، وحتى أمام أي سلطة قضائية أو أدبية، يختارها حسين أحمد أمين بنفسه، لكي أناظره في هذه المسائل جملة وتفصيلا. * كاتب عربي مقيم في الرياض.