عدد كبير من رجال الفكر النهضوي العربي، تلقى علومه في باريس، أو في لندن، بعضهم درس في روما، وربما حدث لواحد أو اثنين ان بدآ حياتهما في العالم الجديد. ولو بحثنا جيداً سنجد اسماء مفكرين تلقوا علومهم في موسكو أو في غيرها من مدن "بلاد الموسكوب"... وفي الاحوال كافة من المعروف ان ولاء النهضوي الفكري، الذي تلقى دروسه في غرب من المغارب، كان ينحصر في ثقافة البلد الذي حضن مرحلته التعليمية، حتى ولو وصل به الامر، لاحقاً، الى محاربة ذلك البلد سياسياً. مع ميخائيل نعيمة، الاديب اللبناني الكبير، تختلف الامور جذرياً، لأنه كان، وفي الوقت نفسه، ابناً لثلاث ثقافات اجتمعت فيه، ولم يكن اجتماعها صدفة. فهناك أولاً ثقافته العربية/ السورية التي حصلها في لبنان ثم واصلها في الناصرة بفلسطين، وهناك بعد ذلك الثقافة الروسية، الفكرية والروحية التي حاز عليها خلال سنوات شبابه الأولى حين اختير ليدرس في سيمنار مدينة "بولتافا" بأوكرانيا، ما أتاح له ان يعاصر المرحلة التي كان فيها ليو تولستوي سيد روسيا الفكري والروحي من دون منازع، وأخيراً هناك الثقافة الاميركية التي اكتسبها بعد هجرته الى هناك وانخراطه في الحياة العملية والأدبية في العالم الجديد. فاذا اضفنا الى هذا كله ان ميخائيل نعيمة، حين أرسل - كمجند في الجيش الاميركي - الى ميدان القتال في فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، كان الوحيد من بين أفراد فرقته، الأديب والعالم بشؤون الآداب الفرنسية. كان ذلك كله ما صاغ لميخائيل نعيمة، ليس فقط ثقافته وابعاده الفكرية، ولكن كذلك شخصيته. والمعروف ان شخصية نعيمة كانت واحدة من اغنى شخصيات العصر الذهبي للنهضة الفكرية والثقافية العربية. وهو لئن كان قد حكى لنا حكاية ذلك الامتزاج الثقافي لديه في كتاب سيرته الرائع "سبعون" الذي وضعه في 1959، فان الاوساط الفكرية الادبية العربية لم يفتها ان تسهب في الحديث عن ميخائيل نعيمة وعن فكره ودوره الريادي في الشعر والقصة والنقد. ولربما كان نعيمة - الى جانب جبران وأمين الريحاني - الأديب اللبناني الذي عرف اكثر من غيره في مصر، حيث صدرت عنه كتب عديدة بوّأته مكانته التي يستحقها في تاريخ الفكر العربي.