البداية كانت في فيلم "فارس المدينة" - على الأقل بالنسبة لي - حينما شاهدت البنت الممرضة تمثل مع محمود حميدة ومن إخراج محمد خان. تابعتها بعد ذلك - بعيني - فيما يتاح لي من أفلامها السابقة حتى جاء فيلم "سارق الفرح" لداوود عبدالسيد… حضرت الافتتاح الخاص بدعوة من الصديقة حياة الشيمي التي قامت بدور صغير ولكنه هام في الفيلم، هناك رأيت لوسي لأول مرة تجلس على المنصة بجوار داوود عبدالسيد وتجيب على أسئلة الجمهور الذي استقبل الفيلم بحماس وترحاب. كانت عندي أسئلة لكن لم أتقدم بها، فلم أكن أريد لأسئلتي ان تواجه لوسي أو داوود عبدالسيد هكذا أمام جمهور كبير. انتظرت بضعة شهور حتى عرفت ان سارق الفرح سيعرض - آنذاك - في مهرجان روتردام العالمي… ذهبت الى المهرجان وتعرفت بداوود عبدالسيد ومحمد القليوبي الذي حضر مع فيلمه "البحر بيضحك ليه" والدكتور مدكور الذي يتولى الرقابة على المصنفات الفنية في مصر الآن وكان هناك سلطان الكاشف منتج الفيلم وزوج لوسي. أخبرت سلطان الكاشف عن رغبتي في ترتيب لقاء مع لوسي عند عودتي للقاهرة بعد حوالي شهر… أعطاني أرقام هواتفه الخاصة في "ملهى الباريزيانا" الذي يمتلكه وفي بيته. وقد كان! حينما اتصلت رحب بين ودعاني لقضاء سهرة في الملهى ووعد بترتيب لقاء مع لوسي. هكذا امتطيت تاكسي وذهبت الى شارع الهرم بعد الساعة الحادية عشر ليلاً متوجهاً الى ملهى "الباريزيان" لأول مرة في حياتي… وأول مرة أيضاً في أي ملهى ليلي في شارع الهرم. فالمواطن مثلي لا يستطيع ان يتحمل تكاليف سهرة هناك، لكني، ساعتها، كنت الضيف المُكرم على المائدة الخاصة لصاحب الملهى! يشغلني موضوع "لغة الجسد" منذ أيام دراستي المسرح في بولونيا وقضاء جزء من وقت الدراسة في "مسرح المختبر" الذي أسسه الراحل منذ وقت ليس بالبعيد غروتوفسكي، خاصة ان مسرحه قليل الثرثرة كثير لغة الجسد. رقص الهوانم لكي يتخيل القارئ الذي لم يعتد الذهاب الى الملاهي الليلية القاهرية "المساحة الخالية" بلغة أهل المسرح المخصصة للوسي حينما تواجه جمهورها اليومي الليلي لذا سأصف "الصالة" التي تشكل الجزء الأساسي من الملهى الليلي بل هي مركز دائرته التي سينتقل مركزها الى طرف من أطرافها في اللحظة التي ستضع لوسي قدمها العارية على خشبها الباركيه اللامع النظيف من كل ما "يجرح" هذه القدم الناعمة الحساسة التي ستقود حركة الجسد المتصل بها وتجعله يتواصل مع الجمهور. ثمة موائد منتشرة في الصالة على شكل حدوة الحصان تحيط بخشبة مسرح صغيرة لعلها متران في ثلاثة أو أكثر قليلاً. المسرح في مستوى أعلى من أرضية الصالة، مواز تقريباً لارتفاع الموائد… أي ان الجالس على مائدة ما سيكون مستوى نظره أعلى بقليل من قدمي لوسي حينما ترقص بمواجهته، ستكون نظرته موجهة تقريباً الى منتصف الساق! في نهاية المسرح من طرفه البعيد توجد ستارة ثقيلة تفصل ما بين المسرح والصالة ايضاً وبين الجزء الخلفي من المبنى والذي يضم غرفة ملابس لوسي واستراحتها، كما يضم من ناحية أخرى غرفة استراحة الفرقة الموسيقية وكذلك من كان أو كانت يصاحبها قبل ظهور لوسي على المسرح، فقد اكتشفت ان الفقرات التي سبقت لوسي كانت بهدف "تسخين الجو" لمقدم لوسي مثل بعض المنلوجست وبعض الأغاني الخفيفة… لا توجد راقصة سواها، فمن يأتي الى "الباريزيانا" يعرف مقدماً انه يأتي خصيصاً لمشاهدة لوسي لا سواها… ليلتها حينما قدمت في حوالي منتصف الحادية عشرة لم يكن "جمهور لوسي" قد التأم شمله بعد… لكني عرفت من سلطان الكاشف ان الليلة ستكون ليلة خاصة للوسي ولجمهورها. السبب؟ ان هذه الليلة هي الليلة الأولى لظهور لوسي بعد ولادتها - وعودتها من اميركا - مصطحبة معها ابنها البكر "فتحي" الذي ولدته هناك. بدأ الجمهور يتوافد ببطء وبدأ "المترودوتيل" يحي الزبائن المعروفين فمعظم من حضروا كانوا من الزبائن كما ظهر من تحية "المترو" من ترحيب سلطان الكاشف بهم… قال لي يطمئنني "المدام ستحضر بعد دقائق". بالفعل أحسست بحركة غير عادية ودخلت لوسي يسبقها "البودي غارد" وتلحق بها "اللبيسة" أي السيدة التي تساعدها في ارتداء او خلع ثيابها… اتجهت مباشرة الى مائدتنا ووقفتُ احييها بعد ان قدمني زوجها. تبادلنا الحديث دقائق قليلة وقاطعتها تحيات من جمهورها وأصدقائها واتفقنا على موعد في اليوم التالي، بعد الظهر، في شقتهما القريبة ايضاً من الملهى ورعتني لمصاحبتها بعض الوقت في غرفتها، حيث تحدثنا عن الفيلم وعن استقبال وحماس الجمهور الهولندي له، لوسي لم تحضر المهرجان… كانت قد أنجبت لتوها ولم تود السفر خارج مصر بعد عودتها من اميركا. سألتها ضاحكاً "ولماذا اميركا" فأجابت ببساطة وعفوية: "ان الأطفال الذين يولدون في اميركا يحصلون اوتوماتيكياً على الجنسية الأميركية". فوجئت ولم أعلق! رجعت الى مائدة سلطان الكاشف التي انضم اليها ضيوف جدد، رجال مع زوجاتهم. خفتت الأضواء وعزفت الموسيقى "تحية" لوسي، كما قال لي زوجها. استقبلها الجمهور بتصفيق حار ودارت هي فوق "البيست" ببذلة الرقص تحي الجمهور الذي كانت تعرف معظمه بالاسم الأول. بدأت لوسي ترقص على كلمات أغنية تصاحبها الموسيقى استطعت تميز جملة منها يغنيها المغني ويعيدها "رقص الهوانم يا لوسي!" ولوسي تتابع الأغنية والموسيقى بحركة قدمها وجسدها، وبالتدريج أحسست بظهور حوار صاخب بين الموسيقى ولوسي، اسئلة وأجوبة، مزاح ولعب، غزل وغنج! امرأة مختلفة كنت قريباً من البيست مما أتاح لي حظاً طيباً ان اتأملها عن قرب في "بدلة الرقص" بعد ان رأيتها في ثيابها اليومية الاعتيادية. وهي حافية لا تبد طويلة بل أقرب الى الطول المتوسط للمصريات. مكتنزة الجسد خاصة بعد ولادتها وما يصاحب الجسم من تغييرات في فترة الحمل والولادة ثم الرضاعة من الأم كما قالت لي بعد ذلك. هي هنا مرأة مختلفة… تتحرك بحسية لكن بدون تبذل… ماكياج ثقيل بدون تبرج… وبذلة رقص تظهر الساقين وجزء من البطن والقليل من الثديين. الذراعان عاريان والشعر الكستنائي منسدل على الكتفين… اكتشفت بعد ذلك أني كمحترف للكتابة والصحافة لا استطيع بسهولة وسلاسة اقتناص لغة الجسد من خلال حركاته المتنوعة والمفاجئة. أحاول ان انجح في "وصف" الجسد من الخارج كما فعلت منذ قليل… لعلي افلح في "تسجيل" جزء من حوار الجسد مع الموسيقى، لكني كنت أعرف صعوبة المهمة وجسامة التحدي بوصف "جسد" تدرب لسنوات طويلة، بالإضافة الى الموهبة الطبيعية، على لغة خاصة به، يثرثر بها أحياناً ويصمت بها أوقاتاً أخرى، فمن شاهد "الرقص الشرقي" يعرف ان "الصمت" هنا، صمت الجسد له لغته الخاصة. سأعرف بعد ذلك حينما التقي بها معاني مختلفة للغة أطراف الجسد، رموزه وثرثرته. فستشرح لي مجيبة عن اسئلتي وتساؤلاتي، تكشف لي اسرار المهنة، أقصد القليل منها بالطبع! كيف نتعلم لغة الجسد؟ في مسرح المختبر، التركيز يكون على الجسد وليس على النص، فالنص المكتوب يُستخدم لمساعدة الجسد على المزيد من "الفصاحة" وليس بهدف توصيل رسالة ما، الجسد هنا يقوم بالتوصيل والاتصال: توصيل الإحساس للمتلقي والاتصال بالمشاهد. ونلاحظ هنا استخدامي لاصطلاحين مختلفين لشخص واحد، فالمتلقي وكما يبدو من الاسم يتلقى ما يريد الممثل والمخرج تقديمه له من أحاسيس وانفعالات… والمشاهد يرى "توضيح" هذه الأحاسيس والانفعالات على جسد الممثل الذي يتحرك في مسرح بالغ التلخيص من حيث الثياب والديكور والإضاءة، أي من جميع عوامل الإيهام وأدواته التي يعتمد عليها المسرح "الآخر" لأن مركز الفعل هنا هو جسد الممثل الذي ليس بحاجة الى عوامل ايهام لكي "يوهم/يقنع" حامل البطاقة والجالس على المقعد بعذابات أوديب - مثلاً - بعد اكتشافه ووقعه في مصيدة الأقدار والآلهة! جسد الممثل، حركته وصوته ولهاثه وصمته هو الفعل الذي لا يحتاج الى وهم/إقناع. لكن في الملهى وعلى البيست جسد الراقصة يحتاج لبعض "العوامل المساعدة" مثل العوامل المساعدة في الكيمياء لكي يستطيع ان يوصل "رسالته" الى المتلقي / المتفرج… يحتاج الى ثياب من نوع معين وإضاءة من نوع خاص… والى موسيقى وكلمات تصاحب لغة الجسد وحواراته مع الموسيقى ومع المتلقي/ المتفرج… فالرسالة المقدمة هنا، رسالة محددة وواضحة: انتصار الجسد وهيمنته على كل ما عداه! وهذا الانتصار يقدم بموسيقى حسية مليئة ب"الفرح والبهجة" بعكس رسالة مسرح "اوديب" الموحية بلعنة الجسد وانه السبب في كل المصائب! شرحت لها فكرتي، العلاقة بين الصمت والجسد واللغة. قالت لوسي ان بداياتها الأولى لتعلم لغة الرقص سأستخدم هنا هذا التعبير مؤقتاً كانت في الحي الشعبي الفقير الذي أقامت فيه في شارع محمد علي. ومن لا يعرف دلالة اسم الشارع الذي يصعد من ميدان العتبة الخضراء وحتى بدايات القلعة وسفح تل المقطم نقول له ان الشارع اكتسب شهرته من وجود الراقصات و"العوالم" فيه… محل سكنهن ومكان عملهن أحياناً كما ارتبط في الأدب المصري سكنى الفتوات والفرق الموسيقية الشعبية ومن شابههم الذين يتعيشون على هامش مهنة الرقص والغناء… وقامت لوسي ووضعت في جهاز الفيديو فيلماً تسجيلياً من انتاج مجلة ومؤسسة "ناشيونال جيوغرافيك" العالمية عن مهنة "التسلية والإمتاع" في مصر. لوسي هي الشخصية الأساسية في الفيلم تصحبها الكاميرا في شارع محمد علي الذي ترجع اليه لتزور "معلمتها" القديمة في شقتها المتهالكة التي ما تزال تستخدمها مدرسة لتعليم الرقص. وقالت لي معلقة على الفيلم "عادة أواظب على زيارة الأوسطى". سألتها "أليس لقب الأوسطى هو أيضاً من ألقاب العالمة والمعلمة؟" أجابت: "بالطبع فلقب أوسطى يُطلق على كل من يُعلم مهنته لآخرين ولقب العالمة لأنها "عالمة" بأسرار المهنة ولقب "المعلمة" من ألقاب الاحترام للأوسطى وللعالمة!". تحدثنا عن التمثيل وخاصة السينمائي والتلفزيوني حيث يتعلم الممثل التعبير بوجهه والتحكم في انفعالاته بينما قلت لها في مهنة الرقص تُطلق الراقصة العنان لتعبيرات جسدها. سألتها كيف "ترى" نفسها بين الرقص والتمثيل. أجابت: "الرقص له تعبيراته الخاصة. يعتمد في الأساس على إيقاعات محددة هي الجملة الموسيقية المعروفة في الرقص الشرقي. التمثيل يعتمد على "الكلام" ولا تنسى ايضاً حركة الوجه والجسد في التمثيل". و"المخرج السينمائي" أضافت لوسي "يكون دوره مثل ضابط الإيقاع في الفرقة الموسيقية المصاحبة للراقصة… لكن لا تنس ان الراقصة هنا هي سيدة الموقف! لأني هنا أتبادل الحوار من خلال جسدي مع الموسيقيين، أحياناً "الاعب" الطبّال… أراقصه من مكاني. الفرقة تكتشف هذا بسرعة وهو أيضاً فيخلون له الجو لينطلق بطبلته وإيقاعاته وينفرد بالراقصة ويتفرغ لها". قلت لها: "مثلما كان القصبجي مع ام كلثوم!" أرجع ذاكرتها الى موقفين مختلفين لها واحد حقيقي رأيته بالأمس والآخر في "سارق الفرح". بدأت بالفيلم: لقطة طويلة أخذها لها المصور من الخلف. لوسي تسير حافية في دروب الحي العشوائي الفقير الذي تقيم فيه. ترتدي فستاناً بسيطاً قصيراً وضيقاً لكنه ملائم لها ولفقرها. كانت قد أنهت حواراً مع الحلاق الوافد بنقوده وعلاقاته الى الحي. الحلاق يحاول ان يقنعها ان تذهب الى عنوان "ناس أغنياء" لترقص لهم - فقط - ووعدها: "لن يحدث أكثر من هذا" وستأخذ مائة جنيه. لوسي تقول له انها مخطوبة… وإذا عرف خطيبها قد يقتلها. لكنها أيضاً محتاجة للنقود. تريد ان تعطيها لخطيبها ليقدمها لوالدها الذي اشترط ان يحصل على مائة جنيه كمهر وإلا لن يتم الفرح. تقتنع بأن رقصها ليس فيه ما يشينها… وتوافق. ثم تأتي اللقطة الطويلة التي يركز فيها المصور على مشية لوسي من ظهرها. تضحك جذلة: "في الفيلم مشيت المشية التي أطلق عليها "واحدة ونص" مشية أوزة مختالة بنفسها وبشبابها وحلاوتها رغم فقرها ومعرفتها بأنها ستذهب لترقص عند الجماعة الأغنياء لتحصل على هذا المبلغ الخيالي بالنسبة لها. هذه مشية تعرفها بنات الأحياء الشعبية في القاهرة، مشية "تقول" الكثير، تعتمد على حركة الساقين بطريقة معينة فتسري منها أمواج تصل الى الظهر…" … أمس وفي ملهاها وفي رقصتها الأخيرة تظهر لوسي على "البيست" ببذلة رقص سوداء مطرزة بخيوط ذهبية محبوكة على جسدها لترقص على موسيقى "انت عمري" فينهض واحد من الجمهور، رجل بدين في منتصف العمر ويتقدم منها ل"ينقّطها" برزمة سميكة من الأوراق المالية فئة العشرين جنيهاً… ينثر بعضها فوق رأسها وهي تواصل رقصها ثم يحاول ان يدس ببقية النقود في صدرها، لكنها تدفع يده بعنف فتسقط النقود على الأرض وتدوسها بقدمها الحافية وتواصل الرقص… تقول "هذه حالة أعرفها وتعرفها المشتغلات بالرقص. تعلمت أيضاً ان أرد على من يحاول ان يفعل مثل ذلك الرجل، حينما يفقد واحد من الجمهور اتزانه ويحاول ان يتخطى الحدود. لأرد بالكلام. بحركة من يدي وانهي الموقف بحركة من قدمي… أدوس على فلوسه!" هل توجد لغة أكثر بلاغة؟!