في خضمّ ما يجري من تحولات في النسيج الاقتصادي والواقع المعيشي عبر جنوب شرق آسيا، خصوصاً مذابح أندونيسيا الأخيرة والقلاقل المستمرّة في الفيليبين، تنامت خلال السنوات الأخيرة حركة القرصنة البحرية في هذه المنطقة وسرعان ما تحوّلت الى "صناعة" إجرامية منظمة لها كوادرها وقادتها ومبيّضو أموالها، ناهيك عن مروجي بضائعها في الأسواق السوداء على امتداد القارّة الآسيوية. قبل خمس سنوات التقيت رجلاً في باتايا قال انه من حلب وأنه عمل لحساب القراصنة في المحيط الهندي. روى قصصاً لا تصدّق عن اقتحام سفن الشحن في عرض البحر تحت جنح الظلام ونقل محتوياتها الى سفن أخرى، ثم الفرار بها وتغيير معالمها وتزوير أوراق جديدة لها وبالتالي بيعها من تجّار السفن بأسعار "تصريفية"، كان صعباً أن أصدّقه فاكتفيت بتسجيل بضعة سطور في مفكرتي. إلا أن التقارير الأخيرة الواردة من هونغ كونغ وسيبو في الفيليبين وبانكوك أجمعت على أن قرصاني الحلبي لم يرو حكايات سندبادية شغل الخيال بل وقائع تثير العجب والدهشة وتشبه قصص القرون الغابرة لا مطلع الألفية الثالثة وعصر التكنولوجيا والردارات المتطورة. وتفيد التقارير المذكورة أن هجمات القراصنة في بحر الصين تضاعفت خلال التسعينات وبلغت نحو مئتي غارة في السنة، وفي العام المنصرم سقط 67 بحّاراً فريسة هجمات القراصنة بينهم 66 في المياه الآسيوية حيث تقع ثلاثة أرباع عمليات القرصنة البحرية في العالم. ويذكر أن الشواطىء الأندونيسية وحدها مسؤولة عن ثلث تلك العمليات. ألوف السفن تعبر سنوياً مضائق "ملكة" بين ماليزياوأندونيسيا، بعضها يتوقف جنوباً في سنغافورة وبعضها الآخر يتوجه الى هونغ كونغوجنوب كوريا، واليابان وتايوان. وتتعرّض هذه السفن الى نوعين من الغارات: الأول غارات "الثعالب" كما يسميهم سكان بابوا - غينيا الجديدة، وهم قراصنة الرسوّ المكونين عموماً من عصابات متشرذمة تضم لصوصاً صغاراً يستخدمون زوارق سريعة ويغيرون على مراكب وسفن راسية على مشارف الموانىء بانتظار الإذن بالدخول لإفراغ حمولتها. النوع الثاني يصفه آرثر باورينغ، مدير جمعية أصحاب السفن في هونغ كونغ، بأنه ليس أقلّ من ارهاب بحري منظم، مسلّح، مزوّد بآخر المعدّات وأحدث الأسلحة وأشرس المجرمين الذين يتعرضون للبوارج الكبيرة في المياه الدولية ولا يتورعون عن قتل طواقمها بلا رحمة ولا حساب. عام 1998 أحدثت قصة ناقلة النفط "بيترو رينجر" ضجة كبيرة حين تعرّضت للتفريغ في عرض البحر وهي تنقل مازوتاً مكرراً من سنغافورة الى فيتنام. وقعت القرصنة في السادس عشر من نيسان ابريل حين فوجىء القبطان الاسترالي كين بلايث بملثمين يقتحمون قمرته، يضعون ساطوراً حول عنقه ويرغمونه على اصدار الأمر الى بحارته العشرين أن يستسلموا. بقي القراصنة على متن الناقلة خمسة أيام الى أن وصلت سفينتهم المجهزة بمعدات التفريغ والتعبئة وجرى نقل النفط اليها وهو بقيمة ثلاثة ملايين دولار. رئيس العصابة قال للقبطان الاسترالي أنه يعمل لحساب منظمة واسعة النفوذ مركزها هونغ كونغ، إلا أن التحقيقات كشفت لاحقاً أن الرئيس الأعلى لهذه العصابة أندونيسي، مليونير، كان في وقت ما ضمن حاشية الرئيس الأندونيسي المخلوع سوهارتو. في مواجهة هذه الظاهرة والخسائر المترتبة عليها تحرّكت شركات الشحن وشركات التأمين والبنوك والحكومات المعنية بما فيها حكومات الاتحاد الأوروبي ومنظمات الأممالمتحدة، وتبنّت بعض الشركات الكبيرة نظاماً الكترونياً يدعى "بوليرو" يهدف الى "تمريك" الفواتير لجعلها منيعة على التزوير وبالتالي شهادة على تسليم البضاعة شرعياً الى وجهتها أو عدم تسليمها. لكن فيما يحمي هذا النظام مصالح الشركات المستثمرة تبقى أنظمة حماية السفن من الغارات هي المحور الأكثر أهمية. وكان المكتب الدولي للملاحة البحرية تقدم باقتراح نظام حماية وانذار يدعى "شيبلوك". وهو عبارة عن رادار صغير يعيّن مكان السفينة باستمرار فإذا خرجت عن مسارها أو توقفت أو اختلّ وزنها ينبىء الرادار مركز المراقبة الذي يتصل بدوره بالسلطات المعنية. المشكلة أن القراصنة الكبار يعرفون أيّ المناطق مناسبة لهم وأيّها خطرة. وفي غياب قوة تدخل سريعة تأتمر بمصدر دولي محايد تبقى الرادارات حبراً على ورق في معظم الحالات. لذا كان لا بدّ من اللجوء الى "الحلّ الآخر" أي استخدام مرتزقة معظمهم من رجال البحرية الهولندية السابقين يتقاضى الواحد منهم ألفين وخمسمئة دولار عن كل مواجهة إضافة الى أجور الحراسة المرتفعة، مكتبهم في كوالا لومبور وتعتزم الحكومة الفيليبينية النظر قريباً في اعطائهم الإذن بالتحرّك من شواطئها. في القرن التاسع عشر كان الإنكليز يرسلون سفن حماية ومواكبة لشحنات بضائعهم. أشهرها "سبيك" التي انتهت، لسخرية التاريخ، سفينة للقراصنة، وجرى أسر طاقمها بتهمة القرصنة!