يتبادل كل من فواز الطرابلسي وفيصل جلول الأدوار في الكتابة عن اليمن، فيتقاربان في بعض الهموم البحثية، ويتباعدان في جوانب أخرى. فكلاهما عاشق لليمن على طريقته الخاصة. الأول كان عميق الصلات باليمن الجنوبي حين كان شعبه يضج بالحنين الجارف الى الوحدة مع صنعاء، والثاني كثير الترداد الى صنعاء وحريص كل الحرص على ضرورة إنجاح تجربة الوحدة اليمنية والعناية الخاصة بالشقيق الأصغر في عدن، والابتعاد عن سياسة ظلم ذوي القربى. لقد تخلى المؤرخ فواز طرابلسي طوعاً عن برودة البحث الأكاديمي ليسجل انطباعات شخصية على الحد الفاصل بين الثقافة والسياسة والتي تنطوي على ذكريات حميمة عن عدن التي أحبها كثيراً، وشارك أهلها عشق الحرية، والثورة، وحلم بناء الاشتراكية، والحزب الطليعي. فجاء كتابه الجديد "وعود عدن" سيرة ذاتية ممتعة. وقد عرف كتابه بالقول: "على مدى قرابة ربع قرن بدءاً من 1970 كنت أزور اليمن بانتظام. وقد بدا اهتمامي به تضامناً مع الجمهورية في الشمال والنضال الاستقلالي في الجنوب. ومع الوقت نما تعلقي باليمنيين وبلادهم حتى صار اليمن وطني الثاني. وتشكل نصوص هذا الكتاب واحدة من المغامرات الدونكيشوتية عند التخوم الغامضة والخطيرة بين السياسة والثقافة، وتتأرجح بين أدب اليوميات والمذكرات والسير والرحلات. إنها قصة "وعود عدن" من سكرة آخر قرصان بريطاني الى الحلم باعادة بناء إرم ذات العماد على يد رفاق علي بن الفضل القرمطي". وتضمنت فصول الكتاب العناوين التالية: عودة القرصان العجوز، بلادي مريم، جلسة قات مع علي بن الفضل، دم الأخوين، الطريق الى يافع، سقطرى الساحرة المسحورة تدخل العولمة، عدن بعد عام على الوحدة، النبية، إرم ذات العماد والكومبيوتر، وعود على بدء: سيد الصخور الظفارية". وليس من شك ان الجامع الأساسي لتلك العناوين هي ذكريات طرابلسي عن اليمن، ومشاركته أهلها عاداتهم وتقاليدهم، أفراحهم وأحزانهم، علومهم وأساطيرهم، أحلامهم وخيباتهم على مدى ربع قرن. في الوقت عينه صدر كتاب فصيل جلول "اليمن: الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة"، بحثاً معمقاً تم التخطيط له وتنفيذه خلال سنوات عدة. فقد استند الباحث الى وثائق رسمية، وأبحاث ودراسات منشورة، بالاضافة الى انطباعات وملاحظات شخصية لأن جلول كان يزور اليمن بمعدل مرة أو مرتين في السنة ما بين 1985 حتى 1998. وحرص في تقديم بحثه على القول: "ليس هذا الكتاب نصاً تأريخياً للأزمة اليمنية وإن كان يستند الى بعض تواريخها ويؤرخ للبعض الآخر، وليس عملاً دعاوياً أو تحريضياً وإن كان يلتزم بالتحريض على ضرورة الوحدة الوطنية الشاملة، وليس بحثاً أكاديمياً وإن كان يلتزم بشروط معينة للبحث والدراسة، وليس مبنياً على مشاعر خاصة وفئوية وإن كانت دوافعه وهمومه ناتجة عن حرص على نصرة القضايا العادلة". توزّعت موضوعات الكتاب على بابين: الأول بعنوان: جمهوريتان في رحم واحدة، وفيه فصلان: شمال اليمن، من ملكية الحد الاقصى الى جمهورية الحد الادنى، وجنوب اليمن: من الاستعمار البريطاني الى الحكم الماركسي. وحمل الباب الثاني عنواناً مثيراً: وقائع سنوات الجمر، وتضمن الفصول الاربعة التالية: الوحدة بين الصدفة والحتمية التاريخية، والمرحلة الانتقالية: صعوبات التعايش والاندماج، وفرضيات الحرب والانفصال، وكيف انهار الانفصال ولماذا؟ هكذا تكاملت موضوعات الكتابين: فحقل الدراسة كاد ان يكون واحداً، زمانياً ومكانياً، وهي مشكلات اليمن بشقيه الشمالي والجنوبي في الربع الاخير من القرن العشرين. وهواجس الكتابين متقاربة ومتباعدة في آن واحد: وعود عدن وثورات صنعاء. وقد تمخضت وعود عدن عن حروب أخوية، وقبلية، وحزبية أطاحت بالقادة، وبالحزب وبالحلم في بناء أول دولة عربية على النمط الاشتراكي الثوري. وآزر تلك الاحلام عشرات المثقفين الثوريين، من عرب وغير عرب، الذين رأوا في اليمن الديموقراطي وطنهم الثاني فاختاروه "حبا وطواعية"، كما في أغنية مارسيل خليفة الشهيرة. فنهضت تجربة اليمن الثورية على امتداد أكثر من عقدين من الزمن على قاعدة مادية ضعيفة للغاية لكن الحماسة الثورية كانت تلهب عشرات المثقفين من الدول الثورية في العالم للانخراط في الدفاع عن التجربة الفريدة في الوطن العربي. فعقدت عليها الاحلام الكبيرة، وقدمت التضحيات بنكران ذات لا مثيل له بهدف إنجاح التجربة وتسديد مسار القيادة ذات الخبرة السياسية المحدودة في التنظيم الحزبي، وبناء الدولة الديموقراطية العصرية، والتأسيس لقوانين جديدة تتجاوز الموروث القبلي في جميع المجالات خاصة مشكلات التعليم، وتحرر المرأة. كان فواز واحداً من المثقفين العرب الذين ساهموا بنشاط في تثقيف الكوادر الثورية اليمنية، وبذلوا الكثير من الجهود في سبيل تصليب الوحدة الداخلية وبناء مجتمع يمني جديد يشكل نموذجاً يحتذى لدى باقي العرب. وحفل كتابه بالأسى والمرارة عند ذكر وقائع الصدامات الدموية لعام 1986، وتصفية الرفاق بعضهم للبعض الآخر، والعودة من القادة، وعلى الحزب "الطليعي" مع إشارات واضحة لمرارة اليمنيين واللاجئين الى اليمن من الدول العربية المنكوبة بحكامها، وانحسار المد التحرري للمرأة اليمنية والعودة الكثيفة للحجاب والتقاليد القديمة التي تراجعت مع انتصار الثورة ثم عادت بشكل أقوى بعد فشلها. كانت الوحدة مع الشمال مطلباً شعبياً وحلماً يسعى كل جنوبي الى تحقيقه لكن مرارة التجربة التي شهدها الجنوبيون بعد قيام الوحدة كبيرة ومؤلمة. هنا يكمل فيصل جلول تفاصيل الرواية الدموية في اليمن عبر نماذج ملموسة تؤكد ان تلك المرارة ليست سوى الثمرة الفجة لسياسة وحدوية قصيرة النظر ومشبعة بروح "الغلبة" على حد تعبير إبن خلدون. ووصف مقدمات تلك السياسة تحت عنوان "صعوبات التعايش والاندماج" بشكل واضح. فقد كان هناك تيار متحفظ على قيام الوحدة الاندماجية بين الشمال والجنوب داخل الحزب الاشتراكي اليميني. ولم تمارس القوى الوحدوية نظام الحكم بشكل ديموقراطي يفسح في المجال أمام الرأي والرأي الآخر ليمتص الازمات بالطرق الديموقراطية السليمجة، ولم تدمج مؤسسات الدولة بشكل يضمن التوازن الاداري وحماية مصالح البيروقراطية الادارية في كلا الجانبين، ولم تكن الآراء السياسية في القضايا الاصلاحية متقاربة بين الاحزاب المسيطرة في البلدين، وكان الائتلاف الحاكم هشاً للغاية وتسوده المصالح الفردية والحسابات الشخصية دون النظر الجدي الى مصالح اليمنيين العليا. وبرز خلاف حاد مع بدء العمل على تطبيق نظام اقتصادي موحد على خلفيات متباعدة جداً بين نظام متفلت من كل ضوابط النظام الرأسمالي بحده الأدنى ونظام يدعي الاشتراكية وقام بتأميم مبالغ فيه وغير مبرر في غالب الاحيان لكثير من قطاعات الانتاج لدرجة حرمانها من الحد الادنى من التراكم الضروري للنمو والتطور. وسرعان ما ظهرت الرهانات المتنافرة الى السطح طوال سنوات 1990-1994. وبدأت الخلافات المخفية تظهر الى العلن مع محاولة كل طرف التحكم بأجهزة الدولة والقوى العسكرية خاصة الجيش، لتوظيفها في حرب باتت وشيكة بين الوحدويين والانفصاليين، ولم تظهر قوة ثالثة تمنع الانفجار وتحمي اليمن من سلبيات الحرب الاهلية المدمرة. ومهما قيل في محاسن انتصار "القوى الوحدوية" على "القوى الانفصالية" فان الاحتكام الى السلاح "الوحدوي" لتثبيت الوحدة بالقوة على شعب آمن دوماً بالوحدة، ولم يتوان يوماً عن الدعوة اليها والانخراط فيها بملء ارادته ينم عن عجز مطلق في ممارسة العمل السياسي على أسس وحدوية وديموقراطية سليمة. وليس من شك في ان العمل السياسي الناجح الذي قامت به كل من الفيتنام وألمانيا والصين بعد توحيد أراضيها وشعوبها يقدم البرهان العملي على الخلل الفادح الذي رافق ممارسة الفكر الوحدوي الاندماجي في اليمن الموحد. قدم كل من فواز طرابلسي وفيصل جلول دراسة مهمة بأسلوب مختلف في السرد والتحليل والاستنتاجات، لكنهما تساعدان في تكاملهما على فهم أواليات تشكل الفكر السياسي اليمني في الربع الاخير من القرن العشرين. فلكل منهما وجهة نظر خاصة في تحليل امراض وأوجاع الشعب اليمني، بدءاً بالموروث القبلي الكثيف، ومخلفات الاستعمار البريطاني، وسلطة السحرة والمشعوذين، والتقاليد الموروثة التي تحد من حرية المرأة والمجتمع، وصولاً الى مشكلات القات، وتخلف البنى السياسية والاقتصادية والثقافية ومعها تخلف النظام السياسي وعجزه عن حماية وحدة الشعب والأرض والوطن بقوة الديموقراطية والانتماء الوطني والقومي الحر وليس بحراب العسكر وتحالفات القبائل القوية ضد القبائل الصغيرة في السلطة والمجتمع. وليس من شك في ان الباحثين قد انطلقا من هواجس متقاربة تنبع من محبة عميقة لليمن واليمنيين دون النظر الى الانقسام القديم بين شمال وجنوب، بين اشتراكية تهاوت وجمهورية لم تتخلص بالكامل من براثن قبلية لا تزال قوية وتستعد للانقضاض على الدولة كلما سنحت لها الفرصة. فمشكلات اليمن مزمنة ومعقدة جداً، لكن الممارسات السياسية للقوى المسيطرة الآن لا تبشر بحل قريب لها. فالبطالة تزداد حدة، وقضايا التنمية تتعثر في مختلف المجالات، ومشكلات التعليم وزيادة نسبة الأمية تهدد بعواقب وخيمة، وتحولت مشكلة "القات" الى أزمة وطنية عامة تستدعي حلاً سريعاً لها قبل ان تطيح باقتصاد اليمن الموحد بعد ان دمرت ركائز الزراعة التقليدية وأدت الى أزمات اجتماعية خطيرة. يضاف الى ذلك ان الحياة الديموقراطية والحزبية لا تزال في الحدود الدنيا كما دلت الانتخابات الاخيرة في اليمن و"انتصار" المرشح الواحد على الطريقة السائدة في الدول العربية. نخلص الى القول إن قراءة معمقة ومتكاملة لهذين الكتابين تقود الى استنتاج موحد رغم تباعد الاهتمامات لدى الباحثين واختيار كل منهما شكل التعبير المميز لتعاطيه مع المسألة اليمنية في المرحلة الراهنة. فقد توصل فواز الطرابلسي الى قناعة مفادها ان "وعود عدن" لتحرير اليمن مما كانت فيه قد انتهت بتقاتل رفاق الدرب الواحد ومقتل أفضل القادة بينهم، فتوقف الحلم الكبير الذي راود الكثير من المثقفين الثوريين العرب. على الجانب الآخر، توصل فيصل جلول الى نتيجة مشابهة هي الآن قيد الاختبار ومفادها ان الوحدة التي تبني بالقوة، ولصالح الأخ الاكبر على حساب الأخ الأصغر ليست الوحدة التي حلم بها اليمنيون طويلاً واندفعوا اليها طوعاً، وقدموا من أجلها كل التضحيات. وهو يكثر من اسداء النصح الى قادة صنعاء كي لا يفرطوا بالوحدة كمكسب وطني وقومي عز نظيره بالنسبة لمستقبل الشعب اليمني في شمال البلاد وجنوبها. لكن هذا المكسب يحتاج الى فكر سياسي وحدوي لم يهتد النظام اليمني الى مقولاته السياسية حتى الآن، وما زال المخلصون من الوحدويين العرب يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً على وحدة اليمن طالما ان القبيلة ما زالت "ضد الدولة"، على حل تعبير برهان غليون. ختاماً، يبدو ان نتائج "وعود عدن" في تحليل فواز طرابلسي، و"ثورات صنعاء" في تحليل فيصل جلول كانت شبيهة بالوعود التي أشار اليها عاصي الرحباني في مطلع احدى اغنيات فيروز المشهورة: ما أنت والوعد الذي تعدينني / الا كبرق سحابة لم تمطر * فواز طرابلسي: "وعود عدن، رحلات يمنية"، منشورات رياض الريس، بيروت، كانون الثاني، 2000 لكن الكتاب قيد التداول منذ مطلع كانون الاول 1999. * فيصل جلول: "اليمن: الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة 1962-1994"، دار الجديد، بيروت، 1999.