استؤنفت المفاوضات السورية - الاسرائيلية في واشنطن تحت الرعاية الاميركية على النحو الذي شهدناه وشاهده العالم الأجمع في اجهزة التلفزة وغيرها من وسائل الاعلام. جاء هذا الاستئناف بعد جهود حثيثة بذلتها اطراف عدة اميركية وأوروبية. وكان ان ارتضى الطرفان صيغة حل وسط تتلخص بكلمات قليلة: "استئناف المفاوضات من حيث توقفت". ويتساءل المرء: هل كانت هذه الجملة السحرية، التي تبدو تحصيل حاصل، كل هذه الشهور من المراوغة والمناورة من الجانب الاسرائيلي، ومن التشدد من الجانب السوري؟! وأقول ان كلا الطرفين كان يناور، ضمن اطار لعبة المفاوضات، ويتشدد بمطالب الحد الأقصى من اجل ان يصل الى الحد "الوسط" المقبول من كلا الطرفين. ومع هذا فان هذا التوصل الى الحل الوسط لم يكن سهلاً. فقد عمل من اجله عشرات الوسطاء وهم يحملون الرسائل بين دمشق وتل ابيب، بدءاً بباتريك سيل وأزنار رئيس وزراء البرتغال وفولبيك وزير خارجية النروج، وانتهاء بفيدرين واللورد ليفي رئيس الجالية اليهودية البريطانية المبعوث الشخصي لرئيس وزراء بريطانيا توني بلير. وتخلل هذه الرسائل والوساطات والزيارات بالطبع نشاطات اميركية مكثفة مع ممارسة ديبلوماسية الهاتف بين حين وآخر. أود ان اتوقف عند وساطتين معينتين هما الوساطة الفرنسية والوساطة البريطانية. هذا مع التأكيد بالطبع على ان الدور الأول بالطبع يبقى للولايات المتحدة، فالسلام بالنتيجة Pax Americana. الوسيط الفرنسي الذي قابل باراك قبل ان يأتي الى دمشق أكد للمسؤولين السوريين ان باراك جاد في الانسحاب من لبنان. وهذا يعني محاولة فصل المسارين السوري واللبناني من جهة وإثارة القلاقل في لبنان وبالتالي اثارة المتاعب لسورية واضعاف موقفها. اما الوسيط البريطاني، فأكد من جهة اخرى - وهو صديق شخصي لباراك وابنه يعمل في اسرائيل - ان باراك جازم حقاً على الانسحاب من الجولان، وانه يعترف "بوديعة رابين" ولكنه لا يستطيع ان يجاهر بذلك علناً لأن ذلك يضعفه داخلياً ويضعف موقفه الداخلي. وقال ان باراك يترك ذلك للمفاوضات ليكون الانسحاب الكامل نتيجة لها بعد التفاوض على كافة التفاصيل المتعلقة بالبنود الاخرى. كلتا الوساطتين، بالاضافة الى المساعي الاميركية الحثيثة، كان لها دورها، في تعديل موقف كلا الطرفين، وفي تعديل الموقف السوري بالذات باتجاه الحل الوسط. واستطيع ان اضيف ان دمشق حصلت على ضمانات من اكثر من جهة اوروبية، وعلى التزام واضح من كلينتون بالانسحاب الى حدود الرابع من حزيران. وتفيد مصادر اسرائيلية ان سورية حصلت على تعهد اميركي بحل الخلافات القائمة بينها وبين تركيا وخصوصاً مشكلة المياه. هناك تفاؤل سوري رسمي واضح بدليل تصريح الشرع - قبل سفره الى واشنطن - بأنه "يمكن التوصل الى نتائج نهائية في غضون اشهر قليلة. ونحن جادون في التوصل الى نتائج سريعة قائمة على قرارات مجلس الأمن ومرجعية مدريد. وسنكون ايجابيين في جميع الموضوعات التي لم تُستكمل في المفاوضات السابقة". ويرد مسؤول اسرائيلي على هذا التصريح المتفائل "… بل يمكن تحقيق ذلك في غضون اسابيع". ان رفع مستوى المفاوضات الى مستوى وزراء الخارجية وحضور باراك شخصياً هو مؤشر ايجابي. وخلافاً لما ذكره معلق رسمي سوري من ان حضور الشرع هو تنازل سوري، فان حضور الشرع هو مكسب للسلام، وان يكون نظيره في افتتاح المفاوضات هو رئيس وزراء اسرائيل هو مكسب بروتوكولي لسورية. ومن الأمور الايجابية ايضاً ان الطرفين لم يتوقفا عند اشارات رمزية - مثل امتناع الشرع عن مصافحة باراك - واستطاعت الديبلوماسية الاميركية ان تجد حلاً لها. على انه عندما بدأت المفاوضات بين الجانبين وجهاً لوجه سرعان ما حلّت أجواء ودية بل وحميمية. وذكرت مصادر اسرائيلية وأجنبية ان الشرع تبادل مع كل من ليفي وباراك الأحاديث الودية حول امور عائلية. ثمة نقطة ثانية أود التوقف عندها، وهي مرامي بعض الجمل في الكلمات التي القيت في يوم الافتتاح. ينبغي ان نتوقف طويلاً عند جملة ذات دلالات بعيدة قالها كلينتون في خطابه تحمل معنى الترهيب والترغيب: ".. والرئيس الأسد ايضاً يعرف ثمن الحرب، وانا مقتنع بعد المحادثات التي اجريتها معه في الأشهر الاخيرة بأنه يعرف ما الذي يمكن ان يقدمه السلام الحقيقي لرفع مستوى شعبه وتحقيق سبل افضل له"! كلمة باراك المقتضبة تضمنت معاني عامة، لكنها ايجابية. اما كلمة الشرع، التي وصفت بأنها قاسية نوعاً ما، والتي لم تكن مرتجلة بل مُحضّرة بعناية، فان اهم ما جاء فيها ان السلام لسورية يعني عودة كل اراضيها المحتلة، اما بالنسبة لاسرائيل فهو نهاية الخوف النفسي الذي يعيش فيه الاسرائيليون نتيجة لوجود الاحتلال… كل ما قاله الشرع،على حدّته، كان ضرورياً. وهو يتضمن معنى ان الصراع لا يعود صراع وجود، كما يتردد في الأدبيات العربية وغير العربية عادة، بل مجرد صراع حدود يمكن الانتهاء منه متى تم الاتفاق على السلام. ما يستحق ان نتوقف عنده بشكل خاص في كلمة الشرع انه قال: "… وما من شك ان الجميع يدركون ان التوصل الى اتفاق للسلام بين سورية واسرائيل، وبين لبنان واسرائيل سيعني في حقيقة الأمر نهاية تاريخ من الحروب والصراعات…". ولكن ماذا عن القضية الفلسطينية التي لم تسو بعد، وهي جوهر الصراع ولبّه؟! وكيف يمكن لوزير ذكي ومتمرس مثل الشرع أعدّ كلمته بعناية ان يتجاهل ذكر القضية الفلسطينية والمفاوضات على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي الشائكة نهائياً؟! وكيف يعتبر سلام سورية ولبنان من جهة، واسرائيل من جهة نهاية تاريخ الحروب والصراعات، والمشكلة الأساسية بعد؟! وكيف لا يذكر الشرع ولو بجملة او اثنتين تضامن سورية مع الفلسطينيين، وبأن الحل الشامل والعادل لا يكتمل الا بحل قضيتهم. نحن نتفهم موقف سورية من عرفات، ولكن القضية الفلسطينية اكبر من عرفات. انها قضية العرب جميعاً. والقدس قضية العرب والمسلمين جميعاً. لقد حملت سورية دوماً الّهم الفلسطيني، ودافعت عن الحق الفلسطيني وقدمت كثيراً من التضحيات. ترى ألم يكن يستأهل المسار الفلسطيني - الاسرائيلي ولو جملة واحدة من الشرع؟! والنقطة الاخيرة التي أود ان اتوقف عندها بعجالة هي بداية تحول بعض غلاة الصقور عندنا، والذين كانوا من دعاة رفض السلام ورفض اي شكل من التطبيع، الى حمائم! اذ نجد احدهم يقول، وهو في موقع مهم: "… ويمكن اعتبار الترتيبات الأمنية الذي يحرص عليه الكيان الصهيوني لقي تفهماً من الجانب السوري… فقضية جبل الشيخ تتفهم سورية تمسك الكيان الصهيوني به !!، وهو موقع ترى انه اكثر اهمية بكثير من المراقبة عبر الأقمار الصناعية وبالوسائل التقنية الاخرى…". ويضيف، وما أدري اذا كانت هذه معلومات اُعطيت له ام اجتهادات من عنده: "وأن حاجة الكيان الصهيوني للمياه سوف تتم مراعاتها ايضاً من الجانب السوري كما افادت الاشارات الصادرة بهذا الصدد.. فقد لا نشرت من مياه طبريا بشرعية تامة، ولكننا قد نصطاد السمك بسواعد طويلة. وربما تعديل ما تجميلي على الأغلب في حدود تجمع بين مبدئية الرابع من حزيران 1967 وما يسمى الحدود الدولية، وهي الحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا عام 1923". لا أدري من الذي أباح له كل هذا الكرم في العطاء - وهو عدو التطبيع - والمفاوض السوري لم ينجز بعد جميع هذه القضايا الشائكة مع المفاوض الاسرائيلي؟! ومن الذي سمح له بالحديث عن "تعديل تجميلي"، والمفاوض السوري يكرر ليل نهار التمسك بخط الرابع من حزيران وديعة رابين مستنداً في ذلك الى بند أساسي من مرجعيات مدريد وهو القرار 242 الذي ينص صراحة على عودة القوات الاسرائيلية الى خط الرابع من حزيران 67؟! عجبي!! * كاتب فلسطيني.