عوامل عدة هي تلك التي تجعل من توماس مان اديباً ومفكراً على صورة القرن العشرين الذي عاش خلال نصفه الأول فطبعه بطابعه وانطبع به. فصاحب "آل بودنبروك" و"الموت في البندقية" الذي توفي في جنيفسويسرا يوم الثاني عشر من آب اغسطس 1955، كان واحداً من اولئك الذين إذا رفضوا واقع العصر الذي يعيشون فيه وجدوا انفسهم يجرون جراً الى داخله والى التورط في أحداثه، تماماً كما كان حال الكاتب الذي قصد البندقية للبحث في لحظة سلام مع الذات في ما كان يعتقده أجمل مدينة في العالم، فوجد نفسه ضائعاً بين موت يحاصره من كل جانب، وتجديد حضاري شعاره التقدم، يحاول أن يرفضه لكن الأخير يبدأ بالحاق الهزيمة به قطرة قطرة في "الموت في البندقية" حيث نرى توماس مان متأثراً في آن معاً بتشاؤمية شوبنهاور وسوبرمانية نيتشه. منذ البداية كان توماس، المولود في مدينة لوبيك الألمانية في 1875، ينظر الى الفن على أساس انه نشاط متجاوز يعنى فقط بالقيم الكبرى ويفضح أواليات تبدل العصور وانحطاط الطبقات والشرائح، دون أن يربط ذلك بأي بعد سياسي أو اجتماعي معين، كما يشرح لنا بنفسه في كتابه "ملاحظات رجل غير مسيس" 1918. غير أن توماس مان سرعان ما سيكتشف ان هذا التجاوز مستحيل. فالعصر نفسه يجرنا الى ميادين حركته قسراً شئنا ذلك ام ابيناه. من هنا نجد توماس مان الذي عرف ككاتب وكمفكر، بنزعته المحافظة، يسارع الى تأييد جمهورية فايمار ذات التقدمية الغامضة حيال قيامها. بعد ذلك سوف يفر توماس مان من هتلر ونازيته من دون أن يكون في سلوكه ما يستدعي غضب النازيين عليه. وشيئاً فشيئاً سوف نجده متورطاً في العمل السياسي ان لم يكن عبر كتاباته التي دنت أحياناً من عالم السياسة وغالباً ما دنت متأرجحة عبر ألف التفاف والتفاف، فعبر مذكراته التي كان يواظب على كتابتها حددنا فيها كل ما يعن له من الأفكار وكل ما يجريه من أحاديث خلال يومه. ومن يقرأ اليوم تلك المذكرات المدونة يوماً بيوم سوف يصعب عليه ان يتعرف فيها على كاتب "الجبل السحري" و"لوث في فايمار" أي على تلميذ غوته الوفي الذي يبدو للوهلة الأولى انه لا يؤمن الا بالفن من أجل الفن. هل ترى يمكن لحالة توماس مان ان تقول لنا شيئاً غير اننا جميعاً متورطون في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وان "البراءة" و"التنزه" عما يحدث، انما هما حالتا ترف قد يكون كل واحد منا راغباً في التمتع به لكنه عاجز عنه؟ المهم ان توماس مان، بعد ان ركز كتاباته الروائية الأولى وبعض أجمل قصصه القصيرة المتوسطة على طرح موضوعات تبتعد عن السياسي ابتعاداً كبيراً، عاد لاحقاً حين أحس انه مطارد، في سويسرا كما في الولاياتالمتحدة، عاد وادخل السياسة وتحديداً النضال ضد النازية في صلب عمله الروائي، وكفنان توّاق الى الحرية ومنفي عن بلده، وجدناه على هذا النحو يكتب "دكتور فاوستوس" التي يخوض فيها مباشرة ميدانين عرف أخيراً كيف يربطهما: دور الفن في عصره وبيئته من ناحية، والاسباب الموجبة لظهور النازية من ناحية ثانية. وهكذا انتهى توماس مان معبّراً في أدبه عن موقف نضالي ضد النازية، تلك الهمجية الأوروبية الجديدة.