يبدو الرئيس كلينتون مقتنعاً بعد أسبوع من المفاوضات بين سورية واسرائيل بأن بالامكان توقيع اتفاق بينهما في موعد اقصاه ايار مايو القادم. وإذا كان موقف الرئيس الاميركي هذا لغير اسباب الاستهلاك الصحافي فهو يعرف شيئاً لا يعرفه احد غيره. كان الحديث في الأيام الاخيرة يدور على اناقة وزير الخارجية السيد فاروق الشرع واصراره، مع اركان وفده مثل السيد وليد المعلم الذي رفض مجرد ارخاء ربطة العنق الكرافات، على ارتداء سترة قاتمة، في حين ارتدى رئيس الوزراء ايهود باراك ثياباً رياضية، وجاء الوسطاء الاميركيون مرتدين "الجينز". وسمعنا ان السيد الشرع وباراك التقيا في غرفة التمرين في الفندق حيث ينزلان، وتدربا معاً، من دون ان يصافح الوزير السوري رئيس وزراء اسرائيل. كذلك قرأنا كثيراً عن وقت العشاء، وحضور الاسرائيليين وغياب السوريين باستمرار. في الوقت نفسه، اجتمعت اللجان المشتركة الأربع الخاصة بالأمن والحدود والماء والتطبيع، وكان التقدم الوحيد الذي تمخض عن هذه الاجتماعات ان السوريين لم يطالبوا بعدم رفع العلم الاسرائيلي على السفارة الاسرائيلية في دمشق بعد توقيع معاهدة السلام. هل هذا تقدم كاف يجعل الرئيس كلينتون يتوقع اتفاقاً خلال خمسة اشهر؟ النقطة الأهم في "وثيقة العمل" التي قدمها الرئيس كلينتون الى المفاوضين السوريين والاسرائيليين كانت موافقة اسرائيل رسمياً، في وثيقة مكتوبة على الانسحاب من الجولان. غير ان نظرة ثانية الى ما وافقت اسرائيل عليه او لم توافق، تظهر ان لا جديد البتة في هذه النقطة، فالرئيس الاميركي قال حرفياً "ان الحدود بين اسرائيل وسورية ستحدد على اساس قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338، وستحدد مع اعتبار مصالح الأمن الحيوية لاسرائيل". اسرائيل وافقت على القرارين المذكورين في حينهما، وهناك خلاف معروف على تفسير القرارين. فهل يكون الانسحاب من "الأراضي" المحتلة او من "أراضٍ" محتلة؟ واسرائيل لم تغير موقفها في شيبردزتاون، فعدد من المسؤولين الاسرائيليين أسرع الى القول ان القرارين لا يلزمان اسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي المحتلة، وهكذا نعود الى اهم نقطة في المفاوضات، وهل يكون الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، او الى الحدود الدولية. لم تتوافر اشارة واحدة من شيبردزتاون الى ان اسرائيل ستقبل الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران التي ستوصل سورية الى بحيرة طبريا. بل ان الاشارات المتوافرة تؤكد اصرار اسرائيل على حصة من مياه سورية ولبنان، مكافأة لها على العدوان المستمر. ولا تتوقف المطالبات الاسرائيلية عند الماء، فالموقف الدائم لها هو ترتيبات أمنية تشمل مراكز للانذار المبكر في جبل الشيخ، غير ان باراك نفسه قال غير مرة ان الجولان غير مهم لأمن اسرائيل، وزاد معلقون اسرائيليون عليه، مثل مائير ستايغلايتز في "يديعوت اخرونوت"، فقالوا ان الاعتقاد السائد ان الجولان مهم لأمن اسرائيل لا يستند الى اساس استراتيجي، وشرحوا ذلك بدقة متناهية. واسرائيل تطرح خفض قوة الجيش السوري وابعاده عن الجولان كله، ثم وضع قوة سلام اميركية بين الطرفين، مع حصول اسرائيل على اكثر الاسلحة تقدماً في الترسانة الاميركية، ما يجعل اي تهديد سوري لاسرائيل في المستقبل غير قائم. الواقع ان الأمن الوحيد الممكن هو ذلك الذي سيجلبه السلام، غير ان اسرائيل تسعى للحصول على اسلحة تجعلها قوة عسكرية عالمية، لا مبرر لها البتة اذا كان سلام حقيقي سيقوم في الشرق الأوسط. وكنا قرأنا ان اسرائيل تريد 18 بليون دولار للتعويض عن المستوطنين في الجولان، ولدفع نفقات الانسحاب، والحصول على اسلحة متقدمة. ثم قرأنا في "هاآرتز" ان الفاتورة الاسرائيلية ستصل الى 70 بليون دولار، وهو ثمن لو تحقق سيجعل اسرائيل اقوى دولة عسكرياً واقتصادياً في الشرق الأوسط كله. ربما ان قوتها هذه ضعف للعرب، فان السؤال يصبح هل يستحق السلام بين سورية واسرائيل المخاطرة بجعل اسرائيل القوة المهيمنة في الشرق الأوسط كله؟ السلام لن يكون من دون ثمن، ولكن كان يفترض ان يدفع طالبو السلام ثمنه، فتدفع اسرائيل انسحاباً الى حدود الرابع من حزيران، وتدفع سورية علاقات وتطبيعاً، ولكن المطروح حتى الآن هو انسحاب اسرائيلي الى الحدود الدولية مع حصة من الماء، ثم قبض عشرات بلايين الدولارات ثمناً لهذا الانسحاب ما سيخلق كياناً هائلاً يهدد الدول المجاورة من جديد بشكل يفوق تهديد سنوات الاحتلال. في مثل هذا الوضع يبدو الاتفاق في أيار القادم، او التالي له صعباً، او اخطر من عدم الاتفاق.