اذا كان الكثير من متابعي التاريخ المصري الحديث، ينظرون، وحتى اليوم، بعين الدهشة الى احداث يوم الرابع من شباط فبراير 1942، حيث اجبرت مدرعات الانكليز في مصر الملك فاروق على القبول... بتشكيل حكومة وفدية يرأسها مصطفى النحاس، فان في التحليلات التي يصدرها المؤرخون لتلك الحادثة المدهشة، وفي القراءة الموضوعية لما سبقها وما تلاها من احداث، ما من شأنه ان يلقي الضوء الكاشف على حكاية قد تبدو أول الامر سوريالية. وسورياليتها تنبع بالطبع من رؤية قوات الانكليز المحتلة لمصر، والمتحالفة - مبدئياً - مع القصر، ضد حزب الوفد، وريث سعد زغلول العظيم الذي كان صراعه ضد الانكليز الفصل الذي ختم به حياة كفاحه، مسلماً الحزب من بعده لورثته الذين كانوا لا يفتأون يعلنون عداءهم للاحتلال الانكليزي لمصر، متهمين القصر بالتواطؤ مع الانكليز. وكان مصطفى النحاس في مقدمة اولئك الورثة، وكان هو الذي حقق معاهدة 1936 مع الانكليز، والتي - رغم كل ما قد يمكن قوله فيها - كانت تهيئ لخروج الانكليز من مصر بشكل أو بآخر. اذن، ما الذي حدث خلال الفترة الفاصلة بين توقيع المعاهدة 1936 ومجيء الملك فاروق الى الحكم 1938 من ناحية، وحلول الاسبوع الأول من شهر شباط فبراير 1942؟ للاجابة على هذا السؤال علينا أولاً ان نتبع احداث ذلك اليوم التاريخي وهي يمكن اختصارها، بأنه في الوقت الذي ابدى فيه الملك فاروق رغبته في تشكيل حكومة برئاسة علي ماهر، انتفض المعتمد البريطاني ليبلغ السلطات المصرية بأن بريطانيا تصر على تشكيل حكومة برئاسة مصطفى النحاس، وتكون وفدية في اغلب اعضائها، ان لم تكن كلها وفدية. ولدعم موقفه، وجه المعتمد البريطاني انذاراً للملك فاروق. بكل بساطة رفض الملك فاروق الانذار ورفض الانصياع، فما كان من المعتمد السير مايلز لامبسون الا ان توجه الى قصر عابدين مع طابور بريطاني مدرع، وأحاط الطابور بالقصر وسط دهشة الناس وغضبهم، وكان على الملك فاروق ان يختار: فإما ان يقبل بحكومة وفدية يشكلها مصطفى النحاس. واما ان يتنازل عن العرش.وحبس العالم انفاسه، لكن الملك فاروق لم يتردد بعد ذلك طويلاً، بل قبل الانصياع وفضل الحل الأول على الحل الثاني: استدعى مصطفى النحاس وكلفه تشكيل الحكومة العتيدة. وزاد من دهشة الناس يومها ان مصطفى النحاس وافق بسرعة مما جعل حزب سعد زغلول العريق يبدو متواطئاً مع الانكليز. وضد من؟ بالتحديد ضد ملك كانت شعبيته قد وصلت الى ذروتها خلال الفترة السابقة ولأسباب لا علاقة لها بالوضع المصري تحديداً. اذ منذ بداية 1942، ومنذ اللحظة التي تحولت فيها القوات الالمانية، بقيادة رومل الى الهجوم واصلة الى الحدود المصرية، بدا واضحاً ان عواطف الشعب المصري تسير في اتجاه الالمان، نكاية بالانكليز المحتلين لا اكثر. ولقد اختار رئيس الحكومة المصرية آنذاك حسين سري باشا، تلك اللحظة ليقوم بخطوتين اثارتا نقمة الرأي العام المصري عليه. أرسل قوات مصرية لتحارب الى جانب الانكليز في الصحراء، ثم قطع العلاقات الديبلوماسية المصرية مع حكومة فيشي الفرنسية الموالية للالمان. ولئن كان الملك قد سكت عن الامر الاول، فان الامر الثاني اغضبه حقاً، خاصة وان حسين سري باشا، اقترفه دون ان يعلمه بذلك، فما كان منه الا ان أقال حسين سري وحكومته. وامتلأت مصر بالفرح لهذا الموقف. وخيل للملك انه أخيراً تمكن من ان يحل لدى الشعب محل حزب الوفد. والانكليز لكي يعاقبوا الملك على مواقفه، ويحدثوا شرخاً عميقاً في الموقف الشعبي، فكانت تلك خبطتهم الكبرى في وجه الملك حين ابدى رغبته في حكومة برئاسة علي ماهر. ولقد تجسدت العلاقة بين الانكليز والوفد فعلاً، عبر حادثة 4 فبراير التي كانت نقطة البداية في نهاية حلم حزب الوفد الشعبي، حيث لم يغفر له الشعب المصري ذلك الموقف بعد ذلك أبداً.