منذ عشر سنوات، ينظّم "معهد العالم العربي" في باريس معارض أثرية تجذب جمهوراً واسعاً، ولكن المعهد الذي يحتوي متحفه على مجموعة مميّزة من الفن العربي المعاصر يركّز في نشاطاته المختلفة، على هذا الفن. مدير المتحف والمعارض في المعهد إبراهيم بن حسين العلوي يشرح في هذا الحوار طريقة العمل ويحدد المراحل التي مر بها التشكيل عربياً. كونك مسؤولاً عن المتحف والمعارض في "معهد العالم العربي"، لا شكّ أنك تراقب عن كثب الحركة الفنية. ما تقويمك لهذه الحركة؟ - الحركة الفنية في العالم العربي مرّت بتجربة كبرى وبمراحل مختلفة، ويمكن القول إن الفن العربي المعاصر انتقل من مرحلة بحث عن الهوية الى مرحلة مواجهات، فمرحلة حوارات، وأعتقد أن الوضع الحالي مطبوع بهذا التاريخ. كانت المحطة الأولى في الستينات، محطة البحث عن الهوية والإرادة في العمل كهوية من خلال اللقاءات والمعارض العربية، ومن ثم كان التوجّه الى انفتاح أكبر، نحو الحوار مع الآخر. من عمل محلي الى عمل عربي متبادل الى عمل دولي، هكذا يمكنني اختصار تجربة الفن المعاصر من خلال نقاطه الأساسية. وأعتقد ان المواجهة مع الغرب أصبحت اليوم، في عصر العولمة، تطرح بعض المشاكل: كيف يمكن أخذ موقع وتأكيد هوية وكيف يمكن ان يقدّم الفرد نفسه الى الآخرين؟ في هذا الحقل الواسع جداً، أعتقد أن الفنان يمكنه ان يلعب دوراً مهماً وأن يكون الميزان في فرض أجوبة جمالية قد تسمح بتقديم أفكار الى مجالات أخرى. أسّستم مجموعة الفن العربي المعاصر في المتحف في الثمانينات. هل تعتقد بأن هذ المجموعة نموذجية؟ - ترتبط المجموعة بوقت تاريخي، فهي تعود الى نهاية الثمانينات وبالفعل كانت تغطّي مساحة جغرافية ومرحلة تاريخية معيّنة. صحيح أن الأمور تغيّرت منذ ذلك الوقت، ولكن المجموعة، عند تأسيسها سنة 1987، كانت تهدف الى تقديم صورة عما كان يجري في العالم العربي آخذة بالإعتبار الأشخاص الذين طبعوا تلك المرحلة والتيارات المهمة التي طبعت التجربة في العالم العربي منذ الخسمينات حتى الثمانينات.أعتقد أن المجموعة نظراً إلى تلك الأهداف غطّت بطريقة جيّدة هذه التجربة ولكن الأشياء تطورّت منذ ذلك الوقت والمجموعة لم تستطع أن تلحق التطورات لأن توجّهات وإهتمامات "معهد العالم العربي" تغيّرت. أصبحنا نركّز على المعارض الموقتّة وعلى التعريف بحركة الإبداع في الفن المعاصر من خلال هذه المعارض ومن خلال اللقاءات، من أجل نشر الأفكار وتنشيط التبادلات والحوارات. من إرادة تأسيس مجموعة دائمة في البداية، توجّهنا أكثر فأكثر إلى نشاطات تبرز تجارب اليوم أو تقدّم شخصيات لعبت دوراً في الفن العربي المعاصر من خلال تخصيص معارض استعادية تسمح بتعميق معرفة الجمهور مع هولاء الفنانين. عندما تنظّمون معرضاً شاملاً، كيف يتم اختيار الفنانين وما المقاييس التي تحدّدونها؟ - هدفنا فتح المجال أمام الجمهور لكي يكتشف فنانين شباب ومواهب جديدة من جهة، ومن جهة أخرى ان يكتشف مواهب وصلت الى درجة معيّنة من النضج، ولفتح الحوار وتنظيم اللقاءات بين الفنانين العرب وفنانين من دول اخرى. وحسب هذه الاتجاهات الثلاثة، نحاول كل سنة ان نبدّل وأن ننوّع المعارض كي نصل الى الأهداف المنشودة. هل تحصرون اختياراتكم دائما بدولة معيّنة؟ - كلا، ولذلك أقول بأن الاختيارات نادراً ما تكون جغرافية بل هي اختيارات تركز على النوعية والجودة. صحيح أننا نقدّم من وقت الى آخر فنانين مجدّدين من دولة معيّنة، وانطلاقاً من قناعتنا بأنهم سيثيرون اهتماما خاصا من خلال تجربتهم، وهذا ما حصل بالنسبة إلى الربيع الفلسطيني مثلاً أو البحرين أو المغرب... ولكننا نحاول دائماً ان نوزّع توجّهاتنا. ولكن، يبدو غالبا أن المعارض الأثرية الكبرى التي تركّز على دولة ما ترافقها معارض للفن المعاصر من تلك الدولة؟ - صحيح، وهي مبرمجة لتقديم فنانين لم يُسمح لهم ان يعرضوا سابقاً في اوروبا. والمعارض التراثية والأثرية الكبرى تجذب عددا كبيرا من الناس فمن خلالها، تتيح المجال ليتعرّف الجمهور الى جوانب أخرى من الثقافة: الموسيقى والندوات والشعر والمسرح والرسم... أعتقد بأنها مقاربة مهمّة لعدم فصل الماضي كليا عن الحاضر وليدرك الجمهور ان هذا الابداع الحالي له جذوره في الماضي. هل يمكن ان نتكلّم قليلاً عن فناني البحرين، إذ عرضتم أعمالهم في شباط فبراير وآذار مارس الماضيين، وبعد ذلك قدّمتم معرضا أثريا كبيرا عن حضارة دلمون؟ - اكتشف جمهور المعهد بإهتمام كبير معرض دلمون ومعرض الفن المعاصر وكان لهذا المعرض أثراً ايجابياً ذلك ان الفنانين البحرينيين غير معروفين فعلياً في أوروبا، وتوجد أحياناً أحكام مسبقة لا مبرّر لها. عرضنا أعمال تسعة فنانين وحاولنا تقديم أكبر عدد ممكن من لوحات الفنان الواحد كي يتمكّن الجمهور من تشكيل فكرة والتعرّف إلى شخصية كل فنان. وكان هدفنا إظهار رسم جدّي ورسم غنّي وأعتقد ان المعرض كان مقنعا لأنه كشف فعلاً عن رسم حيوي، وهو فن ترافقه الدولة البحرينية التي تدعم المبدعين وتعطيهم امكانات للعرض سنوياً في متحف كبير. عندما تختارون فنانين معيّنين، ألا تهملون آخرين؟ - لماذا نقبل في مجال الرياضة الفكرة بأن الأفضل يربح وفي مجال الفن لا؟ صحيح انه لا يمكن أبداً إرضاء الجميع ولكن المهم في هذه المعارض هو تعريف الجمهور إلى ابداع فنّي يجهله، وأردّد باستمرار أن العمل في المجال الفنّي بعيد المدى. يبدو أساسيا في البداية التعريف بوجود فنانين معاصرين جديرين يسجّلون اعمالهم في عالم اليوم ويأخذون موقعهم في الفضاء الدولي الفنّي. وبعد خلق هذا الوضع، يمكننا لاحقا تقديم فنانين آخرين وتيارات مختلفة، وهذا هو العمل الذي نحاول ان نقوم به في باريس منذ عشر سنوات تقريباً. نظّم "معهد العالم العربي" موسماً كبيراً عن لبنان، ولكن البرنامج الذي شمل الآثار والموسيقى والمسرح لم يغطِ الفن التشكيلي المعاصر. لمَ هذا الغياب؟ - صحيح إن الفنّ المعاصر لم يكن حاضراً ولكن المعرض الأثري الكبير نُظّم خلال مرحلة قصيرة جدا إذ تفرّغنا على مدى سنة من أجل تحضير هذا المعرض الذي لم يكن سهلاً نظراً إلى وضع لبنان وخروجه من سنوات الحرب الطويلة، وتمكّنا من إنجاز العمل بسرعة بفضل ارادة اللبنانيين القوية. الإبداع العصري كان حاضرا من خلال الموسيقى والأدب والمسرح، واعترف شخصيا بأنني كنت أتمنّى تقديم فنانين معاصرين ولكنني أعتقد بأن لبنان لا يحتاج الى مهرجان لتقديمه. فالفنانون اللبنانيون حاضرون وسيحضرون في السنوات المقبلة في نشاطاتنا كأفراد وكمجموعات وكدولة. أجبرنا تقريباً على عدم مقاربة الفن المعاصر في إطار الموسم اللبناني وآمل أن نقوم بعمل جدّي على الأرض، في المستقبل، من أجل تقديم الابداع في لبنان اليوم. في العالم العربي بعض المؤسسات وعدد من الأشخاص الذين يملكون مجموعات مهمة من الفن التشكيلي العربي. هل تفكرون في إقامة معرض، في يوم من الأيام، يمثّل هذه المجموعات؟ - لا شكّ أن عدد الأشخاص الذين يجمّعون الفن المعاصر ويهتمون به ويتابعون الفنانين بدأ يزداد في العالم العربي ولكن، للأسف، هذه الأعمال ليست معروضة في أي مكان. صحيح ان بعض الدول بدأ يؤسّس مجموعات على المستوى المحلّي وإنما على المستوى العربي لا يوجد مؤسسة رسمية تعمل على تجميع مجموعات تمثيلية من الإبداع في القرن العشرين في العالم العربي. ولحسن الحظّ، يوجد أفراد وبعض مناصري الفنون الذين بدأوا بتأسيس مجموعات مثيرة جدا للإهتمام وأنا متأكد من أن هذا سيسمح، في المستقبل، بفهم ومقاربة ذاكرة القرن العشرين الفنية.