في كتابة الموسوم "معذبو الأرض" الذي كان بمثابة إنجيل ثوري لحزبيي ومثقفي العالم الثالث آنذاك، كتب فرانز فانون الذي يستحق كل هذا الثناء من إدوارد سعيد باعتباره نموذجاً للمثقف الأصلاني النشط والواعي، محذراً من تنامي الظاهرة الحزبية في افريقيا. فقد أصبحت الحزبية هناك بمثابة لعنة انقسامية تهدد وحدة المجتمع، وباتت بمثابة الطريق الأقصر الى تحقيق غايات أنانية، وبات القادة الحزبيون يتصرفون بأخلاقية جندي برتبة عريف، والتعبير لفانون، عريفٍ لا ينفك عن الصراخ ليل نهار بضرورة الانضباط في الصف وتقديم فروض الطاعة. وهذه هي شيمة الحزبيين اذ انهم بصراخهم هذا، سوف يصبحون حاجزاً بين الجماهير والقادة بحيث يتعذر على الجماهير رؤية قادتها الذين تحولوا الى آلهة لا يمكن رؤيتها، بل يمكن الاستدلال على وجودها من خلال مكرماتها التي تجود بها على الجماهير بين حين وآخر، وبحسب المناسبات التاريخية الجليلة؟ ان الرغبة في الصراخ عند قادة الأحزاب في العالم الرابع كما ينعته سمير أمين، سرعان ما تتحول الى وسيلة، لنقل الى ديكتاتورية مفزعة بنتائجها وكوارثها، شيمتها التنكر للوعود التي قطعتها هذه الأحزاب على نفسها بإقامة جنة الاشتراكية وواحة الديموقراطية، وهذا ما ينتبه اليه برهان غليون في نهاية القرن. ففي ندوة "الديموقراطية والأحزاب في البلدان العربية" مركز دراسات الوحدة العربية، 1999، كتب برهان غليون يقول: "لم يكن هناك حركة قومية عربية فعلاً تفكر في الديموقراطية او في غير الديموقراطية، وانما كان هناك صعود لطبقات تستخدم القومية العربية لتخدم مصالحها الخاصة، وهذا الصعود يحتاج الى ديكتاتورية ولا يحتاج الى ديموقراطية". ومن وجهة نظره ان "هذه فكرة مهمة لتحليل "طبقي" اجتماعي، فهناك مصالح اجتماعية للفئات الصاعدة تمنعها أساساً من التفكير، بالرغم من الأيديولوجيا التي تتبناها، في الموضوع الديموقراطي". وهذا ما يرجحه جورج طرابيشي. ففي كتابه الموسوم "في ثقافة الديموقراطية" دار الطليعة، 1998، راح طرابيشي يشكك بهذا الطلب الايديولوجي الشديد على الديموقراطية الذي لا يقترن بأي عرض ديموقراطي. ومن وجهة نظره ان هذا الطلب العربي خاصة والذي يأخذ شكل هيجان وصراخ ديموقراطي، او ما يسميه الفرنسي آلان منك ب"الهيصة الديموقراطية"، هو شاهد على غياب الديموقراطية. فالديموقراطية لا تتألق في هذا الخطاب إلا بغيابها عن الواقع العربي، وهذا شاهد ايضاً على غياب الوعد النقدي بالديموقراطية، مما يمهد الطريق الى تحولها الى أنشودة غنائية مثالية خلاصية، وذلك بعيداً عن التأسيس النظري للديموقراطية الذي يحتاجه الواقع العالم رابعي عموماً. ان "الهيصة الديموقراطية العربية" بالأخص تخفي من ورائها أمرين: الاول الجهل بالثقافة الديموقراطية. فالديموقراطية ثقافة وليست مفتاحاً سحرياً يفتح جميع الأبواب، وليست نقلة فجائية بلا مجهود ولا كلفة ولا زمنا، كما يقول طرابيشي. والأمر الثاني ان الهيصة الديموقراطية تفصح عن توجه جديد يستخدم الديموقراطية كوسيلة من قبل الأحزاب العتيقة والجديدة معاً، وفي العموم من قبل اصحاب المصالح ممن يمسكون بزمام القرار، والذين لم يتخلوا أبداً عن امتيازاتهم الدكتاتورية والزعامية في اللحظة المناسبة. اذن، بين العداء السافر للديموقراطية وبين استخدامها كمجرد وسيلة في اطار الهيصة الديموقراطية، تغيب المسافات ونجد انفسنا امام ظاهرة عربية صرفة كما ينعتها وليد خدوري في بحثه عن "القومية العربية والديموقراطية". وعن سر غياب الديموقراطية داخل الأحزاب العربية وداخل اجهزة الحكم اثناء تسلم السلطة، يقول خدوري: "تعيش الساحة العربية، من مؤسسات وأفراد، حالة نفسية عربية يصعب فهمها بسهولة، فهناك خطاب سياسي ممتد على صعيد معظم الدول القائمة والحركات السياسية فحواه تغييب الديموقراطية. وتتنوع الأعذار والحجج لهذه الظاهرة. فهناك من يعود الى التراث، وهناك من يتبجح بالأوضاع الاستثنائية للأمة التي لا يبدو ان هناك اي نهاية لها، وهناك من يتعلل بالتكوين الاجتماعي للبلد المعين، كما ان هناك فئة من المسؤولين والحزبيين الذين يحملون قناعات عميقة ومتجذرة ضد الممارسات الديموقراطية ويعتبرونها نوعاً من الضعف والعقم، وان لا شيء غير السيف يستطيع حل مشاكل البلد". ويضيف خدوري مستغرباً: "ومؤخراً، اصبح الكلام عن الديموقراطية وكأنه نوع من الترف الفكري، بل أسوأ من ذلك، نوع من الانسياق وراء السياسة الاميركية، على رغم حيوية الموضوع وضرورته للأمة بغض النظر عمن يدعو له او يعمل من اجله". ما يأسف له خدوري هو انخراط الأحزاب والحركات القومية العربية في مسلسل الأعذار هذا، وكأننا امام ظاهرة عربية، والتعبير له، تجد تعبيرها في العداء للديموقراطية او استخدامها كمجرد وسيلة لتحقيق مصالحها الاجتماعية كما يرى غليون وغيره. لنقل امام ظاهرة جديدة من الصراخ والهيصان تحتاج الى "بيان جديد من أجل الديموقراطية" على طريقة "بيان من أجل الديموقراطية" الذي اصدره برهان غليون مع بداية عقد الثمانينات، وهذا ما يفعله جورج طرابيشي الذي يصر على ان الديموقراطية هي افراز بنيوي متقدم لمجتمعات متقدمة لا تعاني طلاقاً بين بنيتها الفوقية وبنيتها التحتية، كما حاولت ان تقنعنا الأكاذيب الايديولوجية الكبرى، والتعبير له، وهي ثقافة مجتمع مدني لا مجرد وصفة ايديولوجية. من هنا نفسر دعوة جورج طرابيشي المثقفين العرب الى "إعلان هدنة" مع شعاراتهم الثورية والتفرغ لنشر الثقافة الديموقراطية في العالم العربي، فهذا وحده يمثل ضمانة تحول دون تحول الديموقراطية الى مجرد وسيلة لتحقيق غايات أنانية كما نعتها فانون، وتحول دون احتكام الأقلية الحاكمة الى الديكتاتورية في اوقات الأزمة وخارجها. ان بيان جورج طرابيشي عن ثقافة الديموقراطية، الذي يدعونا فيه الى "اعلان هدنة"، يقودنا الى القول بأننا امام اشكالية ديموقراطية عربية حقيقية ومزمنة تأخذ عند خدوري طابع التظاهرة العربية المعادية للديموقراطية، وعند برهان غليون التمسك بالديكتاتورية ضداً على الديموقراطية. وهذا يعني ان طريق النضال ما يزال محفوفاً بالمخاطر خطر الديكتاتورية والجهل الجهل بالثقافة الديموقراطية. ولكن هل يعني إعلان الهدنة تأجيلاً للمشروع الديموقراطي لأن الأزمة الديموقراطية مستحكمة؟ هذا ما لا يقوله احد، خاصة وان قوى عديدة، حزبية عربية، ومثقفين عربا بشتى صنوفهم، لا يزالون يحلمون بالوعد ويعملون للنضال من اجله. وهذا من شأنه ان يحد من حجم التظاهرة المعادية للديموقراطية التي يشتكي منها خدوري، وان يحد من "الهيصة الديموقراطية" التي يتمرغ فيها كثير من الأحزاب والقوى المؤدلجة التي ترمي من ورائها الى تحقيق غايات أنانية؟