شهدت الحدود الإيرانية - التركية منذ فترة وجيزة توتراً بين الأتراك وأكراد، تقول أنقرة إنهم تابعون لحزب العمال الكردستاني. وارسلت طهران تحذيرات إلى القيادة التركية بعد غارة الطائرات الحربية التركية على أهداف داخل الأراضي الإيرانية، وأعادت طهران جنديين تركيين اعتقلتهما داخل أراضيها تزعم أنقرة أنهما ضلا الطريق. وترافق التوتر مع حرب كلامية بين مسؤولي البلدين الذين يواجهون في الوقت ذاته مشاكل داخلية متصاعدة. فتردي الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الانقسامات الداخلية والتجاذبات الدولية والاقليمية تشكل عوامل مغذية للتيارات القومية المتطرفة في البلدين وتزيد من احتمالات اندلاع مواجهات عسكرية محدودة بينهما. وتعمل الدولتان على لعب دور اقليمي بارز في المنطقة للحفاظ على مكانتهما. فقد تمتعت تركيا بدور أساسي ومهم خلال الحرب الباردة بسبب موقعها الاستراتيجي حيث تشرف على مضيق البوسفور الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، وبذلك تسيطر على المدخل الجنوبي لسواحل جمهوريات الاتحاد السوفياتي. ويشير المحلل الاستراتيجي روبرت هركافي إلى أن أنقرة فقدت دورها الاستراتيجي واهتمام الحلف الأطلسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أنها تمكنت من إستعادة قسم من مكانتها لدى واشنطن بعد حرب الخليج الثانية وذلك لمساهمتها بفرض الحظر الجوي على العراق عن طريق تقديم قواعدها الجوية للطائرات الأميركية والبريطانية. ويعتقد بعض المراقبين أن أنقرة قد تستغل الحملة الغربية والأميركية على إيران للتسويق لدور أساسي لها في المنطقة، تستطيع عبره الحصول على الدعم المالي والاقتصادي والعسكري المطلوب لتعزيز نظامها. أما إيران، فكانت الحليف الاستراتيجي الأول لواشنطن في المنطقة قبل سقوط الشاه عام 1979. ولا تزال الأسلحة الأميركية تشكل أكثر من نصف عتاد القوات الإيرانية، الأمر الذي يشير إلى المكانة المميزة التي كانت تتمتع بها طهران لدى الغرب بسبب وجودها على حدود الاتحاد السوفياتي مباشرة وتشكيلها الحاجز الجغرافي بين المعسكر الشيوعي وآبار النفط. وتسعى واشنطن منذ وصول الثورة الإسلامية إلى الحكم في طهران إلى استيعابها، وبعث انتخاب الرئيس الإيراني الجديد محمد خاتمي آمال بعض المسؤولين الأميركيين بإمكان زوال العراقيل أمام تحسن العلاقات بين الدولتين. لكن الحوادث الأخيرة في إيران، مثل المظاهرات الطلابية والمواجهات بين الجناحين، أظهرت دقة الوضع في البلاد وسيطرة المحافظين على غالبية المراكز الحساسة. تحكم تركيا اليوم حكومة ائتلافية تضم حزباً قومياً متطرفاً، وتشن السلطات العسكرية التركية العلمانية حملة واسعة على الإسلاميين، وتتهم إيران بتقديم المساعدات المالية والمعنوية لهم. وتخوض هذه السلطات حرباً ضد الانفصاليين الأكراد، وهي تشعر اليوم بأنها توشك على القضاء على حزب العمال الكردستاني بعد أن قبضت على زعيمه عبدالله أوجلان، ولكنها لم تستطيع إنهاء عمليات عناصر هذا الحزب في المثلث الحدودي الذي يربط تركيا مع إيرانوالعراق، لذلك أظهرت عبر غاراتها الأخيرة تصميمها على وضع حد لعمليات الأكراد من داخل إيران. وتملك كل من تركياوإيران قوات عسكرية كبيرة وترسانات متنوعة ومصانع ذخيرة وأسلحة، إلا أن عوامل مثل العمق الاستراتيجي ونوعية الأسلحة والعقيدة العسكرية سيكون لها تأثير مباشر على مجرى التطورات في حال نشبت الحرب بينهما. ميزان القوى حسب "المعهد الدولي للدراساست الاستراتيجية" يتجاوز عدد القوات المسلحة الإيرانية نصف مليون شخص بالإضافة إلى 125000 شخص في صفوف "حرس الثورة". وهم مجهزون بأكثر من 1400 دبابة وأكثر من ألف ناقلة جند ومدعومون بتسعة آلاف قطعة مدفعية مختلفة وعشرات الصواريخ التكتيكية المتنوعة التي تضم ترسانة من الصواريخ الباليستية. وتملك إيران 307 طائرات حربية، وتشكل الطائرات الأميركية الصنع من طراز "اف -14" و"فانتوم" و"اف -5 تايغر"، أكثر من نصف عدد مقاتلات سلاح الجو الإيراني، وهي تعتمد في صيانتها وتشغيلها على قطع غيار من السوق السوداء بسبب الحظر الذي تفرضه الولاياتالمتحدة عليها. وهذا يعني أن حوالي 40 في المئة من هذه الطائرات ليست في الخدمة الفعلية. واشترت إيران طائرات "اق -7" الصينية، وهي نسخ مطورة عن طائرات "ميغ -21" الروسية، كما أنها ضمت إلى سلاح جوها طائرات طراز "ميغ -29" و"سوخوي -34" كانت فرت من العراق خلال حرب الخليج الثانية، وتملك إيران أكثر من مئة طائرة هيلكوبتر هجومية. وطورت إيران شبكة دفاع جوي تضم تشكيلة كبيرة من صواريخ أرض - جو الأميركية والصينية والروسية. كما تعمل إيران على تطوير صناعاتها الحربية، وهي تنتج اليوم صواريخ باليستية وجوالة بالتعاون مع الصين، بالإضافة إلى أنواع مختلفة من الذخائر والطائرات من دون طيار للرصد والاستطلاع وأجهزة اتصال وتشويش الكترونية. أما سلاح البحرية فهو مجهز بثلاث غواصات روسية الصنع طراز "كيلو"، بالإضافة إلى ثلاث فرقاطات و86 سفينة حربية متنوعة من زوارق صاروخية وخافرات وكاسحات ألغام وزراعات ألغام وسفن انزال و25 سفينة نقل ودعم وصيانة. في المقابل، يبلغ عدد القوات المسلحة التركية 639000 شخص بالإضافة إلى 182000 شخص في قوات "الحرس الوطني" حسب "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، وهم مزودون بحوالي 4200 دبابة و2530 ناقلة جند و4280 قطعة مدفعية مختلفة، بالإضافة إلى ترسانة كبيرة من الصواريخ التكتيكية المتنوعة الحديثة. ويملك سلاح الجو التركي أسراباً من الطائرات الأميركية طراز "اف -5" واف -16" و"فانتوم"، يبلغ عددها 440 طائرة، بالإضافة إلى أكثر من مئة طائرة هيلكوبتر هجومية طراز "كوبرا"، ويتكون سلاح البحرية من مدمرتين و19 فرقاطة و87 سفينة متنوعة من زوارق صاروخية وخافرات وكاسحات ألغام وسفن إنزال، بالإضافة إلى 27 سفينة نقل ودعم وصيانة. ويشار إلى أن تركيا هي عضو في الحلف الأطلسي. مما يعني أنها تملك أحدث أجهزة الرصد والتشويش الالكتروني وتستطيع الحصول على آخر الصور التي تبثها الأقمار الاصطناعية الأميركية والغربية، مما يعطي القيادة التركية معلومات سريعة عن تحركات القوات الإيرانية أولاً بأول، ويمنح الجيش التركي فرصاً أكبر للمناورة والمفاجأة. العمق الاستراتيجي تفصل إيرانوتركيا سلسلة جبال ووديان وعرة ولا يوجد على طرفي الحدود مباشرة أي هدف له أهمية استراتيجية يستحق عناء الوصول إليه واحتلاله، وفي حين تملك تركيا أسلحة من الجيل الجديد الذي يدخل ضمن التقنية العسكرية المعاصرة، ولا تملك إيران أسلحة متطورة على رغم كبر حجم قواتها. ويعتبر الجيش التركي من الجيوش الحديثة التي تعتمد عقيدة قتالية مبنية على مبدأ المناورة وأخذ المبادرة، في وقت تعتمد العقيدة العسكرية الإيرانية على مبدأ الدفاع الثابت أو الدفاع المرن الذي تتخلله هجمات ذات أهداف محدودة. وأشار المحلل الاستراتيجي جيفري كيمب إلى أن القوات الإيرانية، وعلى رغم تفوقها النسبي خلال حربها مع العراق، لم تستطع تسجيل أي هجمات ناجحة. وأضاف ان المواجهات بين الجيشين الإيرانيوالعراقي كانت أشبه بحرب الخنادق التي شهدتها أوروبا في الحرب العالمية الأولى. إذ سيطرت حينها عقيدة الدفاع الثابت للمؤرخ العسكري كارل كلاوزوفيتز على عقلية جنرالات العصر. لذلك، فإن المعطيات تشير إلى أن القوات التركية ستكون لها زمام المبادرة في أي حرب أو مواجهة عسكرية مع إيران. فعدم امتلاك إيران لطائرات حربية حديثة ومتطورة سيعطي لسلاح الجو التركي سيطرة شبه تامة على أجواء ساحة المعركة. ومع أنه لا توجد حدود بحرية مباشرة بين الدولتين، إلا أن سلاح البحرية التركي متفوق بشكل واضح على البحرية الإيرانية وتتفوق القوات البرية التركية من الجانب التقني على الجيش الإيراني. لكن مساحة الأراضي الإيرانية الشاسعة وصعوبة التضاريس ستجعل تقدم القوات التركية عملية شاقة ومكلفة جداً، لذلك، يتوقع المحللون في حال تأزم الوضع بين الدولتين أن تنحصر المواجهة بتبادل مدفعي قد يتطور ليشمل عمليات قصف جوي استراتيجي في العمق الإيراني مشابهة لتلك التي شنها الحلف الأطلسي ضد يوغوسلافيا وشاركت فيها الطائرات التركية. حينها قد تجد إيران نفسها مضطرة لاستخدام صواريخها الباليستية مما سيدخل البلدين في حرب شاملة تستنفد طاقة البلدين. ولن يكون هناك رابح في هذه الحرب، إذ أن الدولتين على عتبة ثورة صناعية وتواجهات مصاعب اقتصادية ومشاكل اجتماعية ستزيدها الحرب سوءاً. والمستفيد من الحرب ستكون أوروبا لإضعافها أقوى دولة إسلامية فيها، وإسرائيل لأن الحرب ستضعف قوتين إسلاميتين رئيسيتين في المنطقة، مما سيعزز دورها في الشرق الأوسط. لا تزال امكانات دخول البلدين في حرب ضعيفة إلى حد ما، خصوصاً بعد الزلزال الذي ضرب تركيا. ويعتقد بعض المحللين ان تركيا لا تريد إثارة مخاوف الدول العربية والإسلامية المجاورة التي كانت ولا تزال تعبر عن قلقها من التحالفات العسكرية مع إسرائيل. فشن حرب على إيران قد يثير ريبة هذه الدول ويدفعها للتكتل ضدها أو دعم إيران. ويضيف المحللون إن تركيا لا تريد أن تثير حفيظة أوروبا التي تعمل على التقرب من الجناح المعتدل في إيران ودعمه في مواجهة المحافظين. أما إيران، فهي تحاول جاهدة تجنب أي مواجهات للاستمرار في عملية بناء قواتها العسكرية واقتصادها المنهكين من حرب مع العراق، لذلك يرجح المراقبون أن تستمر الدولتان في اتباع استراتيجية التقرب غير المباشر، التي تعتمد على الاتصالات السياسية والديبلوماسية لحل المشاكل بينهما، مع إمكان حدوث مناوشات محدودة على الحدود. إلا أن خطر الحرب لا يمكن تجاهله ويجب التحذير منه باستمرار.