تتالت في الأشهر الأخيرة الأحداث في قارة آسيا، خصوصاً في أطرافها الجنوبية والشرقية. واللافت في هذه التطورات ان اسم الصين ظهر في معظمها ما أثار قلق العديد من المراقبين الغربيين من خطر يقظة هذا "التنين". وازدادت هذه المخاوف مع إصدار الكونغرس الأميركي ما يعرف ب"تقرير كوكس" الذي كشف النقاب عن نجاح الاستخبارات الصينية في سرقة تصميمات أحدث الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وتصميمات رؤوس نووية مصغرة وقنبلة النيوترون. وأكثر ما أدهش المتتبعين لهذا التقرير هو أن هذه التصميمات سرقت من داخل المختبرات ومعاهد الأبحاث الأميركية وخلال فترة زمنية طويلة قدرت بعشرين عاماً. وتشير دراسة نشرتها مؤسسة "جينس" للدراسات الاستراتيجية في لندن إلى أن هذه التصميمات ستمكن الصين من رفع المستوى التقني والعددي والنوعي لترسانتها النووية وستصبح خلال خمس إلى عشر سنوات موازية للقوة النووية الأميركية. ويخشى بعض المراقبين من أن تشجع هذه القفزة الكبيرة في التسلح الصين إلى الاستغناء عن نهج الانفتاح السياسي الذي تتبعه منذ نهاية الثمانينات وتعتمد أكثر على جيشها الضخم في تحقيق طموحاتها. وضاعف هذه المخاوف ارتفاع حدة التوتر مع تايوان. ويعود الخلاف بين الصينوتايوان إلى عام 1949 حين انفصلت الأخيرة عن "الأرض الأم" إثر وصول الشيوعيين إلى السلطة في بكين. وتسعى بكين منذ حينه إلى ضم تايوان إلى جمهورية الصين الشعبية، لكنها لم تلجأ إلى القوة على رغم التهديدات وعرض العضلات طوال السنوات الماضية، وآثرت اعتماد الاستراتيجية غير المباشرة، أي التركيز على المساعي السياسية والديبلوماسية والاقتصادية، مع بعض التهديد العسكري من أجل تحقيق أهدافها. هذا في حين اعتمدت تايبيه على دعم ومساندة الولاياتالمتحدة والغرب لحماية أراضيها من القوة البشرية للجيش الصيني. واستغل الطرفان هذا الوقت لبناء قوات عسكرية كبيرة استعداداً لليوم الذي تؤثر فيه السلطة في بكين حل المشكلة عسكرياً. وما يختلف حوله المحللون هو إذا ما كانت الصين مستعدة اليوم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً للخوض في حرب لتحقيق أحد أهدافها الاستراتيجية، إعادة توحيد الأراضي الصينية التي قسمها الاستعمار الغربي. ميزان القوى يشير "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" إلى أن الصين تتفوق عدة وعدداً، في حين تتفوق تايوان تقنياً وتكنولوجياً. وكانت هذه المعادلة إلى صالح بكين قبل الثورة الأخيرة في التقنية العسكرية التي شهدها العالم في حربي الخليج الثانية ويوغوسلافيا. لكن اليوم، وبعد أن ثبتت فاعلية الأسلحة الذكية، مثل الصواريخ الموجهة بالليزر وطائرات الشبح وأجهزة التنصت والرصد والتشويش الالكتروني، أصبحت المعادلة إلى صالح تايوان في مواجهة الأسلحة الصينية التقليدية التي تملك ترسانة من الأسلحة النووية. ويقول المحلل الاستراتيجي مايكل سوين إن القيادة العسكرية الصينية تعمل بجهد كبير منذ حرب الخليج الثانية على تطوير العقيدة العسكرية لقواتها. ويضيف ان عملية عاصفة الصحراء ضد العراق أبطلت المفهوم "الماوي للحرب الشعبية" التي تعتمد على مبدأ حرب الاستنزاف. وعليه، يتابع سوين، فإن الهيكل الحالي للقوات الصينية وعقيدتها وتسليحها غير صالح في حرب ضد جيش حديث. يبلغ عدد القوات المسلحة لجيش التحرير الشعبي في الصين حوالى ثلاثة ملايين مزودين بتسعة آلاف دبابة وأكثر من 18 ألف قطعة مدفعية وترسانة كبيرة من الصواريخ التكتيكية والبالسيتية والعابرة للقارات. وتركز القيادة الصينية في السنوات الأخيرة على بناء اسطول بحري للمياه العميقة، وهو أمر يثير قلق دول المنطقة والولاياتالمتحدة، إذ وصل عدد قطع الاسطول الصيني إلى حوالى 1200 سفينة، تضم 63 غواصة و18 مدمرة وأكثر من 700 زورق صاروخي و119 كاسحة ألغام و73 سفينة انزال بري وعشرات سفن الدعم والتموين. كما أن لدى الصين اسطولاً تجارياً ضخماً يمكن استخدامه في العمليات العسكرية لنقل القوات والانزال البري. وهناك خطط صينية لبناء حاملة طائرات وزيادة عدد غواصاتها المزودة بصواريخ نووية عابرة للقارات، وهي تملك واحدة فقط. أما سلاح الجو الصيني، فهو يضم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتلة وقاذفة، غالبيتها من الأجيال القديمة. وطائراتها جي -6 و7 و8 ليست سوى نسخ مطورة نسبياً عن طائرات الميغ -19 و21 و23 الروسية. وأحدث طائرة دخلت سلاح الجو الصيني كانت السوخوي -27 الروسية، وهي تملك 110 منها. وتعمل المصانع الصينية على تطوير قدرة قواتها في الحرب الالكترونية ووسائل الاتصال. وأطلقت بكين عدداً من الأقمار الاصطناعية لأغراض التجسس والاتصال ما يسهل بشكل كبير عمل مراكز القيادة والاتصال والسيطرة والمعلوماتية، التي تشكل اليوم عصب الجيوش الحديثة. وحسب "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، فإن عدد القوات المسلحة التايوانية يبلغ 376 ألف رجل، يرتفع عددهم عند التعبئة العامة إلى مليونين. وتملك تايوان 700 دبابة أميركية طراز ام -48 وام -60 إلى أكثر من 1300 قطعة مدفعية متنوعة والمئات من ناقلات الجند ومعدات أخرى. وتملك تايوان اسطولاً بحرياً من 210 سفن، تشمل أربع غواصات و18 مدمرة و18 فرقاطة ومئة زورق صاروخي و12 كاسحة ألغام وعدد من سفن الدعم والتموين والانزال البري. أما سلاح الجو فيتألف من 530 مقاتلة وقاذفة تشكل الطائرات الأميركية الصنع اف -5 تايغر العدد الأكبر منها. ووقعت تايوان في السنوات الأخيرة على عقود لشراء طائرات فرنسية طراز ميراج -2000 تسلمت أكثر من 30 منها حتى الآن، وعقود لشراء 120 طائرة أميركية طراز اف -16 تسلمت 60 منها. هذا بالإضافة إلى المقاتلة المتعددة المهمات "تشينغ - كو" التي تصنعها تايوان بالتعاون مع شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية وشركات إسرائيلية. وتؤمن التقنية العالية لطائرات الميراج واف -16 وتشينغ - كو تفوقاً كبيراً على الطائرات الصينية، ما يضمن للقوات التايوانية سيطرة جوية شبه كاملة. كما أن لدى تايوان شبكة دفاع جوي قوية ومتطورة تضم صواريخ أرض - جو أميركية طراز هوك وتشايرال وهيركوليز، بالإضافة إلى ست بطاريات باتريوت نشرت العام الماضي على الأراضي التايوانية، ما يؤمن لها دفاعاً فعالاً ضد طائرات على ارتفاعات شاهقة أو الصواريخ الباليستية. سيناريوهات الهجوم يتحدث المراقبون عن سيناريوهين لهجوم صيني على تايوان: الأول بأسلحة تقليدية والثاني بأسلحة نووية. وفي السيناريو الأول يتوقع المراقبون أن تستخدم الصين قوة نيران مدافع سفنها وقاذفاتها تمهيداً لإنزال بري على أحد سواحل جزيرتي تايوان الرئيسيتين: كيموي وماتسو، ومن ثم تعمد القوات الصينية إلى توسيع رأس الحربة على الشاطئ داخل عمق الجزيرة معتمدة على كثافة النيران والتفوق البشري، إلا أن هذا السيناريو يواجه عقبات عدة أهمها انعدام التفوق الجوي للطيران الصيني، ما يجعل السفن والقوات الصينية عرضة للنيران الهائلة التي يمكن ان توجهها المقاتلات والقاذفات التايوانية، ويذكر ان المدمرات الصينية لا تملك وسائل دفاع جوي ضد طائرات على ارتفاع عالي، وهي أحد أهم نقاط ضعفها. كما أن حجم القوة الصينية التي قد تقوم بأي انزال بري غير كافية لخرق الدفاعات التايوانية. فحسب الخبير العسكري المختص في شؤون الصين لاري فروتزل، فإن الصين لو استخدمت كل سفن الانزال البرمائية والدعم التي لديها بالإضافة لاسطولها التجاري، فإنها لن تستطيع نقل أكثر من جيش قوامه 40 ألف رجل، وهو لا يكفي لمواجهة قوات تايوانية محصنة ومدعومة جوياً وبحرياً. السيناريو الثاني هو أن تستخدم الصين قنابل النيوترون التكيتكية، وهي قنابل تصدر اشعاعات نووية كثيفة تقتل البشر وتبقي الحجر والمعدات سالمة. ويمكن تحديد حجم وقوة الرأس الحربي للقنبلة النيوترونية بحيث تقتل قوات الخصم في منطقة محددة. وبذلك يمكن ان تلقي القوات الصينية بضعة رؤوس نيوترونية على سواحل جزيرتي تايوان ومطاراتها العسكرية الرئيسية لشل دفاعاتها الساحلية والجوية تمهيداً لتشكيل رأس حربة على شواطئ جزيرتي تايوان والانتشار فيها. إلا أن لهذا السيناريو عواقب سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة تهدد الأمن القومي والاستراتيجي للصين ودول المنطقة. فمن جهة، ستجد الصين نفسها أمام مواجهة عسكرية ضد تحالف غربي تتزعمه الولاياتالمتحدة، وهي غير مستعدة ومجهزة عسكرياً واقتصادياً للدخول في حرب بهذا الحجم. فعدد صواريخها الباليستية العابرة للقارات لا يزال محدوداً ليشكل تهديداً استراتيجياً على الولاياتالمتحدة في وقت تستطيع الترسانة النووية الأميركية إبادة الصين. كما ان حجم ونوعية التقنية العسكرية الأميركية والغربية تستطيع أن تلقن القوات الصينية دروساً قاسية، خصوصاً في مواجهات بحرية أو جوية. ويشار إلى أن الولاياتالمتحدة دفعت بحاملتين للطائرات إلى بحر الصين في 1995 و1996 يوم حركت الصين قواتها باتجاه تايوان مهددة باحتلالها. وحذر البيت الأبيض في الأيام الأخيرة بكين من "عواقب وخيمة" في حال لجأت إلى الخيار العسكري. ومن جهة أخرى، سيدفع استخدام الصين لأسلحة غير تقليدية دول المنطقة إلى التكتل ضدها خشية من مطامعها. وقد يعمد بعض هذه الدول، خصوصاً اليابان، وهي المنافس الاقتصادي الرئيسي لها في المنطقة، إلى بناء ترسانة من أسلحة غير تقليدية من أجل ايجاد عامل رادع ضد بكين. خيارات بكينوواشنطن يرجح بعض المحللين أن تحافظ الصين على سياستها الحالية القائمة على الانفتاح الاقتصادي من أجل استمرار نسبة نموها السنوي المتصاعد منذ عقد من الزمن. ويذكر أن الصين سجلت معدل نمو سنوي بنسبة عشرة في المئة، ما زاد من إمكان تحولها إلى قوة اقتصادية في المستقبل القريب، وتحقيق هدفها الرئيسي، وهو أن تتحول إلى قوة عظمى. وساعدتها هذه السياسة على تطوير صناعاتها ووسعت من حجم الاستثمارات داخلها في شتى القطاعات، خصوصاً العسكرية. ويقول المحلل سوين إن الصين أدركت في نهاية الثمانينات ان التنمية الاقتصادية هي المفتاح للحصول على "قوة وطنية شاملة" لذلك تتبع بكين استراتيجية تقوم على تهدئة الأوضاع في المنطقة والانفتاح على واشنطن والغرب من أجل الحصول على الوقت اللازم لبناء نفسها اقتصادياً وصناعياً وعسكرياً وسياسياً لمستوى دولة عظمى. وتدرك بكين في الوقت نفسه، حسب سوين، ان واشنطن ستحاول منعها من أن تصبح دولة عظمى لذلك تفرض عليها حظراً تكنولوجياً عسكرياً غير معلن. إن تحول الصين إلى قوة عظمى سيحدث تغييرات جذرية في موازين القوى الدولية وسيؤثر على سير الأحداث في منطقتي جنوب وشرق آسيا تنتشر فيها أزمات وصراعات عرقية ودينية واقتصادية، لذلك تتوقع مؤسسة "جينس" ان تسرع الولاياتالمتحدة في بناء نظام الدفاع ضد الصواريخ النووية لحماية كل أراضيها ومصالحها في الخارج، وهو مشروع أقره الكونغرس حديثاً. كما ان واشنطن ستحاول التركيز في محادثاتها مع بكين على موضوعين أساسيين: الأول، الحد من انتشار الأسلحة النووية في المنطقة، خصوصاً مع احتدام النزاع بين الهند وباكستان. وقد تعمد واشنطن إلى تسهيل دخول الصين في منظمة التجارية العالمية مقابل بعض التنازلات. وتسعى بكين منذ سنوات عدة للدخول في المنظمة من أجل تحسين وتوسيع أسواق منتوجاتها. ما يمكن استخلاصه هو ان الصين لا تزال بحاجة إلى بعض الوقت لتحديث وإعادة بناء قواتها. كما أنها تعاني من مشاكل عدة بسبب تفشي الفساد في الدوائر العامة وانتشار الفقر بين غالبية الشعب وافتقار صناعاتها في مختلف القطاعات للتكنولوجيا الحديثة. ويرى المراقبون ان الصين ستعمد من حين إلى آخر إلى توتير الوضع مع تايوان من أجل تجييش المشاعر القومية وإلهاء المواطنين عن المشاكل الداخلية، وردع تايبيه عن الاستقلال، وجر واشنطن لطاولة المفاوضات من أجل الحصول على المزيد من المساعدات في شتى المجالات. لكن بعض المحللين في أوروبا وواشنطن يخشى أن تلجأ الصين إلى سياسة القوة حالما تشعر أنها أصبحت مستعدة عسكرياً واقتصادياً وذلك لتثبت للعالم بأنها غدت قوة عظمى.