} فتحت "آفاق" الباب أمام التشكيليين العرب المقيمين في الخارج للإجابة على سؤال: "من أنت؟" في إطار فهم العلاقة بين هؤلاء وبين الواقع الثقافي التشكيلي الذي يحيط بهم يومياً. ونشرنا دراسة أعدها الفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر كمقدمة لا بد منها للدخول الى هذا العالم المتناقض والمتشعّب. كما وجّهنا رسالة مفتوحة الى جميع التشكيليين العرب في الخارج توضح الفكرة من الاستفتاء. وها نحن ننشر اسهامات التشكيليين العرب كما وردت الينا وفق تسلسلها الزمني، على أمل ان نتابع في "آفاق" نشر كل الآراء التي تصبّ في إغناء وعي الحركة التشكيلية العربية لنفسها في الخارج، وكذلك اطلاع الفنانين التشكيليين العرب على مواقف وانجازات زملاء لهم ربما وجدوا صعوبة في معرفتها في السابق. ومرة اخرى نؤكد على ان المجال متسع ورحب أمام كل المساهمات، تعليقاً ونقداً وتوضيحاً. شاعرٌ في البدء ومن ثم رسّام. وُلد في العراق سنة 1955. درس علم النفس في بغداد ومن بعدها درس الرسم بين 1988 و1992 في المدرس العليا للفنون البصرية في جنيف. أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية في سويسرا والمانيا وانكلترا. معروف كشاعر في العالم العربي وصدرت له اخيراً مجموعته "كيف" عن دار "المدى" في دمشق. اذا كان هذا السؤال يود التوجه مباشرة الى "التجربة الذاتية" للفنان العربي في المنفى، واذا ما انتوى ان يطلق العنان له بالحديث عن ما هو "فرداني" اولاً وقبل كل شيء في اطار غير مقصود من الاتهامية "من انت؟" فان مسارب الجواب في يقيني ستكون بالضرورة اقل موضوعية مما ننتظر. اننا سنشهر الهاجس "الفريد" السري و"الخصوصي" للغاية، وربما السوداوي، غير المفهوم، والدفين في تجاربنا. اننا سنعقد الحوار قليلاً. اظن بأن غالبية الاجوبة ستنحو بهذا الاتجاه. حرام! من طرفي، وبعيداً عن التنظير ذي النوايا النقدية زاعمة المزاعم، فان تجربة المشاركة مع الغرب الاوروبي علّمتني ان امنح "للبصري" دوراً لم اتعرف عليه بعد في الثقافة العربية المشغولة بعلوم الكلام واللغة والبلاغات والقياسات المنطقية التي تشهد عليها، كل يوم صحيفة جادة مثل "الحياة". انني اسعى ان انحدر من بصيرة اللغة الى معرفة البصر، من حاسة النطق الى حاسة البصر. ومن ثم فإنني امرؤ يحاول ان يقنص العلاقة الداخلية بين الممارسة الشعرية، بمعناها الضيق كوني شاعراً كذلك، والممارسة البلاستيكية في الخط واللون. هذا التعالق الذي يشيع "الشعرية" في الانواع الادبية والفنية كلها قد توصل النقد الاوروبي الى تحليله منذ حين. ما زلت في طور العودة، ومعاودة العودة، الى الاصول البصرية، بما فيها الفن الاسلامي، التي هي جزء مهمّش من الثقافة العربية، لكن على ضوء مصطلحات تحليلية مستعارة بالضرورة من القاموس الغربي الثري. تشكّل هذه العودة الى الاصول وتمظهراتها الخفية في الاستخدام الثقافي نوعاً من فحص للانجازات التشكيلية التاريخية للثقافات المتعاقبة على المنطقة، وقياساً للذات بالذات، لأن اية مقاربة بين راهن التشكيل العربي المستلهم من الغرب في غالبية تجاربه وكبراها وبين الفن الاوروبي مصدر التجارب والمدارس والتقنيات والمعارف اليوم انما هي ضرب من ضروب الوهم، على رغم الاهمية القصوى لبعض المنجزات التشكيلية العربية. مقاربة المصدر بالمصدر اليه ينقصها الكثير من التواضع. واذا ما زعم البعض بأنهم ينطقون ولا يعرفون سوى اللغة البصرية اداة للتعبير، فإن قواعد عامة لهذه اللغة لم تصر بعد جزءاً من ثقافتنا. لن نتحدث عن النخب التي تظل بدورها هامشية في السياقات الاجتماعية العربية والتي من الصعب العثور في داخلها هي نفسها على تشكيلي ذي ثقافة فنية رفيعة. نتكلم عما هو سائد، الذي هو القاعدة العامة حتى أجل آخر. لكن اذا ما كانت الحداثة في الفن مفهومة شمولية اليوم ولا يتوجب الخجل من استعارتها، فيتوجب قبل ذلك معرفة اصولها الثقافية والفلسفية المتبلورة عبر بضعة قرون من الجدل المرّ والغني. والحاصل لدينا اننا استعرنا آخر تجليات هذه الحداثة من الفن الاوروبي من دون تلك الاصول الفكرية. ان الكثير من اللوحات الطليعية جداً في التشكيل العربي ينقصها المحرك الجوهري، الداخلي، النظري والتطبيقي. نظرياً: هي من دون جدل تلك الافكار الحداثية العويصة وتطبيقياً هي استعارات حرفية من الحرفة، الصنعة للتقنيات الغربية المدروسة بمهارة والمنفذة بشطارة. نبدو لذلك وكأننا بوضع يائس، خصوصاً بعد التكرارات المملة للحرف العربي الذي ودّ مستخدموه ان ينجز في آن لوحة طليعية ومحلية، ولم ينجز في النهاية سوى أعمال زخرفية، مبهجة، تدغدغ العين من دون ان تحتوي ما يكفي من العمق، اي من البحث، نبدو، من جهة اخرى، بوضع اكثر يأساً ازاء الوسط التشكيلي الاوروبي الذي نعيش بين ظهرانيه. انه لا يريد من فنانينا ان "يبيعوا" له تلك التجارب التي "اقتبسوها" من فنه هو نفسه. هذا الوضع يذكّر بمثل شعبي عراقي بليغ "يشتري مني وبيع عليّ" الذي يلخص بعمق وجهة نظر الغاليريهات الاوروبية، المعروفة خاصة، التي ترفض ان تعرض لفنانينا الطليعيين في اوروبا، او تعرض القليل مما تعتبره يمثل خير تمثيل اعمق ما في الثقافات المحلية المستوطنة في بلدانها. ثمة نقطة اساسية اخرى هي: اذا ما كان الشعر فناً مشاعاً للجميع للسهولة العملية لانجازه، فان الرسم وقبله النحت هو فن ارستقراطي بمعنى من المعاني. اضافة الى المهارة والحذق اليدوي والعافية والمستلزمات المادية، فإنه يتطلب الكثير من الاسترخاء الروحي، وهذه كلها لا يوفرها المنفى الاوروبي للفنان العربي المدوخ بلقمة العيش او بأسئلة وحوارات - من طرف مواطنيه ومن طرف الاوروبيين - لا تتعلق بالفن قدر تعلّقها بالوضع السياسي والاجتماعي في بلده البعيد المشغول بالحروب او بالفقر او بصعود الفاشيات. وفي الحقيقة فإن الحوار الفني المحض الذي هو محرّك جوهري آخر للابداع التشكيلي غائب بعض الشيء في اوروبا سوى لدى قلّة قليلة من الفنانين. الآخرون مشغولون بتطوير أدائهم فحسب الواصل الى مستوى عال، لكن الاداءات لوحدها قد تقول عكس ما نظن: فقراً روحياً او نزعة تلوينية محضة شبه تجارية. ان غياب الاسترخاء الروحي، وليس التوتر الخلاّق اللازم للفنان، لا يوفر اسباب نتاج تشكيلي مقنع. انني مندمج بهذه المشكلات قبل غيرها.