في أواسط ايلول سبتمبر الجاري، لم يحتفل احد بذكرى مرور 17 عاماً على انطلاقة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" لجيش الاحتلال الاسرائىلي لاجزاء من لبنان صيف 1982. والحق ان هذه الجبهة التي يعود تاريخ ميلادها الى أواخر ذلك الصيف اللبناني الملتهب والدامي، جعل بريقها يتلاشى ويخبو، بعد صعود نجم الحركة الأصولية الشيعية والخمينية في لبنان، واضطلاع منظمتها العسكرية، "حزب الله"، بأعمال مقاومة اسرائيل في الجنوب، تحت لواء "المقاومة الاسلامية". وقد جاء تفكك هذه الجبهة ولفظها أنفاسها الاخيرة في نهاية الثمانينات، علامة بارزة على إنهيار الاجهزة الحزبية اللبنانية التي كانت تقف وراءها وتغذيها بالموارد البشرية والمادية والمعنوية، أي الحزب الشيوعي اللبناني على وجه الخصوص. وكانت عودة الجيش السوري الى بيروت خريف 1987 قد أدت الى وقف حروب المنظمات العسكرية الأهلية والطائفية المتطاحنة على السيطرة على شوارع العاصمة وأحيائها، والى دفعها في اتجاه الجنوباللبناني لتتولى مقاومة الاحتلال الاسرائىلي هناك. والتوجه جنوباً كان قد حدث ايضاً في أعقاب "حرب السنتين: 1975 - 1976 الداخلية"، مع حلول "قوات الردع العربية" في لبنان، ثم اقتصار الوحدات المشاركة فيها على وحدات الجيش السوري دون غيرها. فكأنما مقاومة اسرائيل كانت تعويضاً أو استعاضة عن الحروب الداخلية، أو استكمالاً لها في الجنوب، والعكس صحيح ايضاً. أي ان الحروب الداخلية في لبنان كانت، في وجهٍ من وجوهها، استعاضة عن توقف الحرب العربية مع اسرائيل. فبعد حرب استنزاف فلسطينية - اسرائيلية في جنوبلبنان بين 1969- 1975، انفجر الصراع العسكري الداخلي في لبنان، لتهدأ تماماً مقاومة اسرائيل من الجنوب بين 1975-1977. وبعد حلول الجيش السوري في لبنان لم يبق للمنظمات العسكرية الفلسطينية معقلاً تستقل في السيطرة عليه منفردة سوى جنوبلبنان الذي طردت الحملة العسكرية الاسرائىلية عليه في صيف 1982، القوات الفلسطينية منه ومن بيروت ايضاً مع القوات السورية. أما "اتفاق الطائف" الذي أوقف الحروب الداخلية في لبنان مطالع التسعينات، فترك الجنوباللبناني ساحة مفتوحة لحروب استنزاف بين الجيش الاسرائىلي المحتل و"حزب الله" الذي كان نشأ في ضواحي بيروتالجنوبية في النصف الثاني من الثمانينات على انقاض المنظمات الفلسطينية وحليفتها اللبنانية. "بين جيلين" اعتمدت "حركة المقاومة الوطنية اللبنانية" لاسرائيل في الثمانينات، وكذلك "حركة المقاومة الاسلامية" الأصولية الشيعية في التسعينات، اعتمدتا في عملياتهما العسكرية على فتية لم يتجاوزوا، غالباً، سن العشرين وغير البالغين سن الرشد من "المقاومتين" ليس عددهم بقليل. فالتوجه جنوباً الذي كان يعقب المجابهات الداخلية في لبنان، غالباً ما كان يبدل "المادة البشرية" للمقاومة، على مستوى التنظيم والتأطير، وعلى مستوى التكوّن الاجتماعي والثقافي والفئات العمرية للمقاومين. في أعقاب الحملة الاسرائىلية على لبنان صيف 1982، كان المقاتلون الذين شكلوا المادة البشرية الفاعلة في الحرب في المناطق الاسلامية، قد اختلفوا في مساراتهم الاجتماعية عن الجيل الذي سبقهم في حمل السلاح في النصف الثاني من السبعينات. فمن اتجه جنوباً من ابناء هذا الجيل كانوا في معظمهم من طلبة المدارس الثانوية والجامعات الذين شاركوا في "حرب السنتين"، ونشأوا في المدن بيروت وضواحيها، وشاركوا في أنشطة حزبية في زمن ما قبل الحرب، وخبروا شيئاً من حياة السلم والاختلاط الطائفي والانتظام أو الفشل الدراسي. وليس من قبيل الصدفة ان يتخلى السواد الاعظم من محاربي ومنظمي أنشطة "حرب السنتين" عن متابعة نشاطهم في خضم الانعطاف الكبير الذي حدث في نهاية هذه الحرب. وقد تجلى هذا التخلي في مغادرة قسم كبير من هذا الجيل لبنان الى أوروبا فرنسا خاصة لمتابعة تحصيل دراسي، والانخراط في بعض مجالات العمل المتاحة هناك. فشكلت "الهجرة التعليمية" لهؤلاء الشبان مخرجاً من الحرب وظاهرة ملحوظة تجلت في تكاثر حملة شهادات الدكتوراه في مختلف المجالات العلمية. اما الجيل اللبناني اللاحق الذي شكل المادة البشرية للأنشطة العسكرية على اختلافها في الثمانينات، فكان من مميزاته الغالبة: هشاشة مساراته الاجتماعية والعائلية والمدرسية، واضطرابها وتكسرها، وتقطع موارد أسره المعيشية وشحّتها، وعدم انتظام الحياة المهنية والسكنية لأرباب هذه الأسر وابنائها، والعيش في ما يشبه الترحال الدائم بين مناطق القتال ومجتمعات التهجير في المدينةبيروت وضواحيها الجنوبية، وضعف "التثقيف الحزبي" و"السياسي"، وشيوع ظاهرة "التفرغ" للعمل العسكري... وقد شكلت هذه المميزات مجتمعة الارض الخصبة التي غذّت "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، ومدّتها بالعناصر البشرية، وأمّنت لها الوجود والاستمرار. وشكّلت ايضاً الارض الخصبة التي نمت فيها الحركة الأصولية الشيعية التي ستشكل نواة "المقاومة الاسلامية" في التسعينات. ويمكن من وجه آخر التعرف على الاختلاف بين هذين الجيلين من خلال نوعية هجرة المتخلين منهما عن الانخراط في أدوار الحروب، الى خارج لبنان. فمهاجرو النصف الثاني من السبعينات كانت هجرتهم تعليمية في الغالب الأعم، ووجهتها أوروبا الغربية وأميركا. أما مهاجرو الثمانينات، لا سيما بعد اجتياح 1982، فكانوا ينزحون هائمين على وجوههم إما على نحو لا شرعي، وإما طلباً للجوء سياسي. وكانت وجهة هذا النزوح البلدان الاسكندنافية وألمانيا وسويسرا وغيرها، حيث تمّ ايواء بعض الفارين في مخيمات لجوء، وعاش البعض منهم على تقديمات مالية واجتماعية وانسانية، فيما كانت قيمة العملة اللبنانية تنهار على نحوٍ مدوٍ. أما حروب الميليشيات "الحليفة" في بيروت الغربية والتصفيات الحزبية الدموية، وظاهرة خطف الاجانب وتصاعد الموجة الأصولية، فجعلت العيش في هذا الشطر من العاصمة وضواحيها جحيماً لا يطاق. وفي هذه الاثناء اتبعت "مؤسسة رفيق الحريري للتعليم" ما يشبه نظام "تعبئة عامة" في صفوف الراغبين في مغادرة لبنان للدراسة في أوروبا وأميركا. تقنيات جديدة في هذه الأجواء المحمومة والعاصفة تنامت "حركة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي اتبعت احزابها المؤسسة تقنيات جديدة في عمليات تطويع المقاتلين في صفوفها، تختلف عن تلك التي كانت شائعة في صفوف الاحزاب والميليشيات ما قبل 1982. فقد حرصت الاحزاب والحركات السياسية اللبنانية على ابقاء شبكات التطوع في المقاومة سرية ومنفصلة عن قاعدتها التنظيمية، فعمدت الى اقامة حواجز داخلية بين أطرها التنظيمية المشرعة على الشارع والناس والاهالي، وبين الاجهزة التي أنشأتها ضيقة مغلقة، قليلة المسارب، للقيام بتنظيم شؤون المقاومة وادارتها وتنفيذ عملياتها. ولم تعتمد هذه الاحزاب في عمليات المقاومة على الحزبيين والمقاتلين المحترفين القدامى في صفوفها، بل على جيل جديد من الفتيان الذين نشأوا في خضم تقطع المسارات الاجتماعية والشخصية وتفككها، عائلياً ودراسياً وعملاً وإقامة. وهؤلاء غالباً ما كانوا في أدنى مراتب هرم التنظيم الحزبي، السياسي والعسكري. أما جاذب هؤلاء الفتيان والشبان الى التطوع في صفوف المقاومة فيمكن اختصاره في أمرين متلازمين: - رغبتهم في التعويض عن تفكك مساراتهم باكساب حياتهم المهشمة قوة معنوية خاصة ومميزة، وشبه "صوفية"، عبر الانخراط في تنظيم سري، بعدما غدت المشاركة في عمليات الحروب الداخلية ممجوجة ومنحطة في الحياة العامة. - الهالة والسحر اللذان أحيطت بهما أعمال المقاومة ضد اسرائيل، في وسائل الإعلام والمهرجانات الخطابية. فقبل تطوعهم في أجهزة المقاومة، كان التردد على المكاتب والمقار الحزبية في الاحياء المدينية وضواحيها، لحراستها وتسجية الأوقات فيها، محور حياة هؤلاء الفتيان. ومنهم من كانت البطالة وانهيار التعليم الرسمي وضعف الرابط الأسري والعائلي، قد دفعتهم الى "التفرغ" للعمل العسكري والحياة الحزبية والميليشياوية، لقاء مرتب مالي زهيد وثابت. فمجتمع الحرب جعل يغذّي نفسه بنفسه كي تتسع الحرب وتستمر ككتلة من الثلج تروح تتضخم كلما دارت على نفسها وجذبت اليها عناصر استمرارها. غير ان انحطاط الصورة المعنوية للمقاتل الميليشيوي في الحروب الداخلية، والخواء والتعب اللذان ألمّا بحياته اليومية بعد سنوات الحرب الطويلة، جعلت من التطوع في صفوف المقاومة ضد اسرائيل بصفتها عدواً تاريخياً ومحتلاً، مخرجاً مناسباً من الانحطاط والخواء الميليشيويين. ثم ان الرهبة والغموض والسحر والسرية التي اكتنفت صورة المقاوم، وحملات الدعاية والمهرجانات الحاشدة التي أقامتها المنظمات الحزبية لاعمال المقاومة، جعلت تلهب مخيّلات الفتيان الذين وعوا على الدنيا فما أبصروا فيها نصب أعينهم غير مجتمع الحرب والتهجير والحصار والخوف. والروايات الشائعة التي رواها مقاومون في "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" عن ظروف تطوعهم وحيثياته، لا تخلو من اكتشافهم المفاجىء ان رفيقاً لهم وصديقاً استشهد في احدى العمليات، أو اعتقل، كان عضواً سرياً في المقاومة. وهو الاكتشاف الذي يحول الحياة السابقة لهذا الرفيق الشهيد أو المعتقل، أي حياته كمقاوم سري، أمثولة لرفيقه وصديقه الذي يروح يستصغر حياته وشأنه كلما نظر الى نفسه بعيني رفيقه المقاوم، خصوصاً وأن الأخير سرعان ما يحيطه حزبه بهالات العظمة والمجد والبطولة والتقديس والسحر، بعد استشهاده أو عتقاله، بعدما كان شخصاً عادياً مغفلاً، وربما فائضاً عن الحاجة في الميليشيا المتآكلة. أما حين كان رفيق المقاوم الشهيد أو المعتقل يحزم أمره، ويقرر الإنضواء في صفوف المقاومة، فغالباً ما كان يخضع لاختبار أولي لحقيقة نياته ودوافعه، من اهدافه إشعاره بأنه يُقدم على أمر غير عادي، عليه ان يعدّ له العدة، ويتهيأ لاستدخاله في موضع السر في نفسه. فيُقال للراغب في هذا الانضواء الجديد ان الامر صعب ويستلزم منه، الى الحزم والتصميم، اجتياز امتحان هو بمثابة انتخاب له يقوم به جهاز سري ومجهول. وما ان يجتاز الفتى هذا الامتحان الأولي الشبيه بشعائر وطقوس رمزية للبلوغ في ثقافات قديمة، حتى يتم تأمين اتصال خاص وسري بينه وبين "رفيق" مجهول وغريب، يتولى أمر انخراطه السري في جهاز المقاومة. وفي هذا الاتصال - اللقاء يوصى الفتى بأن حياته من الآن فصاعداً بدأت تتغير وتتبدل. ذلك ان عليه ان يبدأ بالانسحاب، شيئاً فشيئاً، من سيولة حياته العادية والعامة، ليباشر حياة أخرى سرية ومغفلة. وهكذا تنقسم حياة الفتى حياتين اثنتين: واحدة سرية يكتمها في نفسه، وأخرى عادية يروح يستسهل شؤونها وشجونها، كلما نظر اليها بعين حياته السرية التي تمنحه دوراً استثنائياً، يختلط خوفه منه بشعوره انه خارق ويكتنفه شيء من التعظيم. صناعة الرموز ما ان كان المقاوم يخرج، بعد اعتقاله، من الأسر والمعتقل في اعقاب أعوام طويلة من الآلام والعذاب، ويعود الى أهله ورفاقه، حتى يتحوّل رمزاً للتضحية والصمود والعطاء، ويروح يتحدث ويسلُك ويُعامَل بصفاته هذه. ونادراً ما تحظى تجربة السجن والاعتقال والتعذيب والمهانة الجسدية والنفسية التي تعرض المقاوم المعتقل، الا بكلام يناسب الصفة الرمزية التي منحت له. وهكذا تُختصر حياة الشخص وتجربته الحية بمثالها المفترض ورمزها النُصبي الخاوي. والحق ان المقاومين المحررين بعد أسرٍ واعتقال، ليسوا سواسية، بل هم مراتب ومقامات. وذلك بحسب المهمة التي كلفهم الجهاز المقاوم تنفيذها. فمن أوكلت اليه مهمة اغتيال احد قادة العدو، فأسِر، ليس شأنه، بعد تحريره، كشأن المقاوم الذي أُسر في عملية عسكرية عادية. فهذا الاخير من سواد المقاومين وعامتهم. وهذا ما يتيح له ان ينقل رواية عادية وحقيقية، أحياناً، عن تجربته في الأسر والاعتقال. أما ذاك الذي نفذ عملية اغتيال مشهودة، فيستمد من علو شأن العملية التي نفذها الكلام الذي يكرر، من غير كللٍ ولا ملل، استعادة مثال المقاومة النصبي. وهو كلام إنشائي عن التضحية والبطولة والعدو المغتصب الآثم، على ما لم يتوقف لسان "نجمة المقاومة الوطنية"، سهى بشارة، عن التكرار، بعد إطلاقها من المعتقل الصيف المنصرم. والمقاوم، وهو في سجنه الانفرادي وعزلته الأليمة السوداء، يروح يتماهى، في الغالب، مع الصورة النصبية والرمزية التي تُصنَع له في غيابه، أثناء المهرجانات والإعلانات والشعائر في الإعلام المقاوم. فما ان يخرج من المعتقل حتى يروح ينطق بصفته صورة ونصباً. كأنما الحياة السرية، المغفلة والمكتومة، التي عاشها المقاوم قبل قيامه بتنفيذ العملية التي أوكلت إليه، هي المكافىء لتحوله رمزاً وصورة، نصباً أو قناعاً، فيما هو يعيش قسوة الأسر والاعتقال، وبعد خروجه من المعتقل. 17 عاماً إنقضت على إنطلاقة "المقاومة الوطنية اللبنانية" التي ورثتها "المقاومة الاسلامية" الأصولية والشيعية منذ مطالع التسعينات. وفيما الكلام يدور اليوم في لبنان على الاحتمالات المصيرية لهذه المقاومة الاسلامية ولحزبها، "حزب الله"، في المستقبل القريب، وفي ظل مفاوضات السلام المرتقبة، فإن مقاومي الامس وجمهورهم المريد لا يجدون كلاماً على تجارب المقاومة المنقضية الا الشجن والتحسر، والقول "ألا ليت الشباب يعود يوماً"!