أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    ضبط يمني في مكة لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 2.910 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في حلب    بايدن : لوس أنجلوس أصبحت أشبه ب «ساحة حرب» بسبب الحرائق    لاعب الشباب يغيب عن مواجهة الأهلي لأسباب عائلية    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    رئيس لبنان يطالب رئيس حكومة تصريف الأعمال بالاستمرار لحين تشكيل حكومة جديدة    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يتجاوز 80 دولاراً    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُقدم مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين    ثلاث أمسيات شعرية في ختام ملتقى أدبي جازان الشعري    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    ماذا بعد دورة الخليج؟    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    سبب قيام مرتد عن الإسلام بعملية إرهابية    سالم ما سِلم    نجاح المرأة في قطاع خدمة العملاء يدفع الشركات لتوسيع أقسامها النسائية    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جودة القرارات.. سر نجاح المنظمات!    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعرية الأسلوب عند أمين الريحاني . تطويع البلاغة القديمة وتشريع اللغة على الحياة 1 من 2
نشر في الحياة يوم 26 - 09 - 1999

عندما نتصدى لمحاولة استجلاء مظاهر شعرية الأسلوب عند أمين الريحاني 1876 - 1940 بعد قرابة قرن من بداية انبثاقها في الأفق العربي، فإننا لا بد أن نأخذ في اعتبارنا أمرين على جانب كبير من الأهمية، يعودان في صميمهما الى الدرس الذي وعيناه من تطور نظرية القراءة والتأويل في النقد الحداثي المعاصر.
أولهما: أن وقع أسلوب الريحاني علينا اليوم يختلف بالضرورة عما كان يثيره لدى معاصريه. ومهما حاولنا أن نعيد بناء الماضي ونتمثل حالة الكتابة العربية في أيامه فإن حساسيتنا الجمالية في استجابتها لعناصر الشعرية الحاضرة والغائبة لديه، تختلف جذرياً عن حساسية قرائه في أيامه. فلا بد أن خلو لغته في معظمها من أشكال البديع والسجع ومظاهر التفاصح مثلاً، مما تعد البراءة منه اليوم شرطاً ضرورياً للجمال العصري في وعينا - يمثل نقصاً فادحاً لدى قطاع عريض من جمهوره القديم، ومعنى هذا أن ما يعجبنا اليوم منه ربما كان صادماً لذائقة فئة عريضة من جمهوره حينذاك.
والثاني: أن ما نحاول كشفه الآن من مظاهر الشعرية عنده ليس نسبياً، بل يستجيب بدرجة أعلى لنموذج الأدب الرفيع كما تمخضت عنه ثقافة القرن العشرين كلها، مما يجعل مقاربة الريحاني له تمعن في خلعه من سياقه التاريخي، ومن ثم فهي تلحظ دوره الطليعي بأثر رجعي. فلا ضير عليه إذاً ان لم يكن قد حقق بشكل كامل ما نسعى اليه اليوم من حيوية اللغة وتحررها، ويكفيه أن يكون أسلوبه قد أصبح معلماً متقدماً في مراحل تطور لغته القومية، مما يجعلنا ونحن نتأمل بعض ملامحه نرقب جانباً من عبقرية اللغة وهي تتشكل لدى واحد من أنبغ أبنائها وأكثرهم حماسة في الرقيّ بها وتطويرها كي تصبح في مستوى لغات العالم الكبرى في العصر الحديث.
وعندما نتبصر اليوم ما كان يوجه من نقد الى الريحاني، حتى في سياق تكريمه، من عنايته بالمعنى على حساب اللفظ، فإننا نشهد اختلاف الأساليب ومذاهب التعبير في مطلع هذا القرن، ونشفق على من كان يتصور أن الصواب التاريخي معه ونحن نرى أن الريحاني كان أقرب الى لغة المستقبل، فشوقي الذي يحتفى به في مصر ويمجد عبقريته في قصيدة جميلة مطلعها: قم ناج أهرام الجلال ونادِ / هل من بناتك مجلس أو نادِ؟
يقول له في أدب جم:
حق العشيرة في نبوغك أول / فانظر لعلك بالعشيرة بادي / لم يكفهم شطر النبوغ فزدهمُ / ان كنت بالشطرين غير جواد / أودع لسانك واللغات فربما / غنّى الأصيل بمنطق الأجداد / ان الذي ملأ اللغات محاسنا / جعل الجمال وسره في الضاد
فأسلوب شوقي النثري كان لا يزال مكبلاً بقيود البديع اللفظية، فهو يغمر ضعف لغة الريحاني كما يشرح ذلك في حاشية الأبيات، لأن الريحاني كان قد فارق هذه المرحلة وانطلقت لغته بحيوية مفزعة للمحافظين بعد أن ظل مثلهم أسير الصياغات المفتونة بالألفاظ كما تشهد بعض صفحاته الأولى، كان قد رحل الى المستقبل الذي ما زال نثر أمير الشعراء بعيداً عنا.
أسئلة الشعرية
نظراً لطبيعة الأسلوب الزئبقية، المستعصية على التحديد الحاسم، فإن مقاربتنا لشعرية الريحاني لا بد أن تأخذ في اعتبارها ثلاثة عناصر - غير شخصية - تمتزج بالخواص المميزة لكتابته، فيتشكل من هذا المزاج قوامه الخاص الذي يوحد بينه وبين أقرانه، بقدر ما يميزه عنهم.
ويرتبط العامل الأول بمذاق اللغة العربية في العقود الأولى من هذا القرن، وطريقتها في تطويع بلاغتها الكلاسيكية، بفعل المرونة الصحافية والإبداعية الجديدة. حتى لنكاد نسمع في طبقات هذه اللغة الإيقاعية والتركيبية خشخشة انشقاقها وصرير بنيتها وهي تتمدد بحيوية جديدة على السن المدبب للأقلام الشابة، فتغطي مساحات جديدة في مناطق الفكر والحياة لتعبر عنهما بصرامة لم تعهدها من قبل. ولعل أزيزها يبلغ مداه في تلك الحالات التي تحتك فيها بإحدى اللغات الكبرى - الإنكليزية أو الفرنسية - لتقاوم القصور عنهما، ولتبتدع أنماطاً جديدة من التعبير المكافىء لما فيهما من فكر وفن محدثين. وسواء كان ذلك يحدث عند المهجريين في الخارج أمثال جبران ونعيمة وغيرهما، أم عند المقيمين المتطلعين لما يحدث هناك أمثال المنفلوطي والعقاد وطه حسين، فإن حركة اللغة في مطلع هذا القرن كشف عن هذه الخلخلة المنزاحة عن النموذج التقليدي.
ولقد كان جهد الريحاني في تحريك اللغة مضاعفاً، لأن طاقته الإبداعية المزدوجة في اللغتين اللتين رضع من ثديهما معاً - العربية والإنكليزية - فضلاً عن بعض الاختراقات الفرنسية اللامعة، جعلته نموذجاً مبكراً للمبدع الثنائي الذي تتعدل على قلمه أوضاع الكلام، وتثري في مخيلته أساليب التعبير بعد صراع يعكس تناوب الهويات القاتلة - على حد تعبير أمين لبناني آخر. هو أمين معلوف - قبل أن يعثر بمشقة وضنى على النغم الشخصي المنسجم.
وإذا كان الإطار الزمني قد كشف لنا عن جانب من تمزقات الكتابة عند الريحاني فإن المكان وجمالياته قد صنعا صنيعهما في تكييف لغته بين لبنان وأميركا. حيث نجد لديه مثلاً راقياً لنمو هذه البلاغة الشامية المعدّلة بالمهجر الغربي، وهي بلاغة تمتد عبر أجيال الشوام من جبران حتى كرم ملحم كرم. بلاغة تمتص رحيقها من منابع الشعرية العربية الدافقة منذ العصر الجاهلي وتتغذى بجسارة لافتة من القرآن الكريم في الوقت الذي تستمد معينها المتخيّل من الكتاب المقدس وتغترف من طاقات التعبير الإبداعي في اللغات المناوشة. ومن الطريف أن نتذكر بصفة خاصة، أن اكتشاف الريحاني المبكر والمتزامن مع اكتشاف طه حسين تقريباً كان يتمثل في وقوعه على لزوميات المعري وافتتانه بها ودورانه طويلاً في فلكها وليس المعري في التحليل الأخير سوى العصارة المقطرة للشعرية العربية عند بلورتها في أوج نموها الكلاسيكي. وربما كان موقع الريحاني - خارج البؤرة المركزية للثقافة الإسلامية - وهامشيته منها يمثل التحدي الذي يتغلب على التناقض، ويجعله أقدر على الوعي بها، وأحرص على تمثيلها - بطريقته - من مواقف الكتاب الآخرين الغافلين عن مواقعهم واللاهين عن طرح الأسئلة الثقافية الجذرية. ولكن تبرز أمامنا بجلاء شامية أسلوب الريحاني ويكفي أن نقارنه بأسلوب شامي آخر تخلى عن طابعه وتمصر في لغته وهو جرجي زيدان الذي لا نجد لديه هذه البلاغة الفصيحة العالية المميزة لأبناء جبال لبنان بقدر ما نجده سهلاً ليناً متدفقاً وحركياً صحافياً يعشق السرد والبساطة ولا يحاول أن يبهر قارئه بمعجمه أو تراكيبه، مما يجعل كتاباته نثرية خالصة خالية من عبق الشعر وجلاله.
أما العامل الثالث فيتصل بما يمكن أن نلاحظه الآن، بعد استقرار الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية من شعر وقص ومسرح ومقال من عودة لحالة الرجرجة وتحريك الحدود في ما يعرف بإسم النصوص عبر النوعية. حيث يمتزج الشعر بالنثر والقصة بالقصيدة والمقال لتخليق أنواع جديدة مهجنة. هذه ظاهرة توازي ما كان شائعاً في الثقافة العربية الحديثة عند بواكيرها الأولى مع اختلاف المقاصد والوظائف الجمالية. ومع أن رسالة جيل الرواد كانت تأسيس الوعي بهذه الحدود وتعميقه فإن كتابات أمين الريحاني كانت حقلاً خصباً لتجارب مضادة، تمزج بين الأقصوصة والمقال، وتخلط الرواية بالسيرة والتاريخ، وتنسف حدود القصيدة المنثورة والخواطر المنظمة، سواء كان ذلك من العربية أو الإنكليزية، ولعل هذا التمازج بين الأجناس أن يكون من أبرز المؤشرات لطبيعة الشعرية عند أمين الريحاني، فهناك نبرة ملحمية رسولية تغلف أسلوبه في المقال، ونزعة سردية يتمكن بها من بلورة منطقه الفكري في الرسالة. وافتتان بلاغي غنائي يحكم لغته في القص، فأسلوبه يقع دائماً على الحدود الواصلة بين الأنواع الأدبية، ويتميز بطابعه المهجن، وينجح في أسعد حالاته في خلق التواؤم الضروري بين هذه الأطراف، لكنه قد يقع في المفارقة الفاصلة بينها.
ومع أن سؤال القصدية والعمد لم يعد يؤرق الباحث الأسلوبي، إذ يحاول توظيف حساسيته كقارىء لبلورة وقع الأسلوب على نفسه بغض النظر عما إذا كان الكاتب قد عمد الى تكوينه بهذا الشكل واعياً قاصداً أم لا، إلا أنه في حالة أمين الريحاني الذي كان بعيداً عن العفوية العشوائية بقدر ما كان يطيل التأمل الفكري في مسيرته الإبداعية فإن جنوحه الى تفجير طاقة اللغة الشعرية بعيداً عن الأوزان التي لم يكن يتقنها فطرياً فيما يبدو فإن الجانب الإرادي المحسوب كان واضحاً لديه، يقول مثلاً في معرض حديثه عن إبداعه "تحققت أن التزام القافية الأخيرة والأوزان العروضية يحول غالباً دون التبسط والتدفق، فيضطر الشاعر أن يلجم قريحته لئلا تقع "في البيت" فتكسر رأسها، أو يشذب المعاني الجديدة لتلائم الصيغ القديمة، أو يختار أهون الأمور فيجيئنا بالنثر المنظوم، لذلك قلت: لا صيغ قديمة ولا قوافي ولا أوزان، وبدل النثر المنظوم جئت بالشعر المنثور الذي يشهد على ما في لوح الوجود من موحيات المعاني والاستعارات والأفكار الجديدة، وإذا جاء فيه شيء من الغموض في بعض الأحايين فذلك لأني أرى في الحياة ما لا يرى منها، وأسمع من الأصوات القريبة صدى أصوات بعيدة، الكون الظاهر ان هو إلا رمز لكون خفي، والكون الخفي إن هو إلا الله".
وإذا تغاضينا عن هذه النزعة الصوفية، ولم نتابع الريحاني في التمييز بين اللفظ والمعنى على عادة عصره وأردنا أن نضع أيدينا على جوهر الشعرية التي أراد تحقيقها في كتابته، قرأنا له مثلاً مشهداً حميماً من "هتاف الأودية" في القصيدة التي تحمل العنوان ذاته يقول فيه:
داويني ربة الوادي داويني/ ربة الغاب اذكريني / ربة المروج اشفيني / ربة الإنشاء انصريني... أنا ناي الرعاة من عبادك / أنا عود العشاق من روادك / أنا أرغن المتشرد من عبيدك / أنا كنارة الراقصات يوم عيدك / أنا النفس التي تتجلى فيها عرائس جمالك / وتنبعث منها أشعة خيالك / وتنطبع عليها أسفار حكمتك / وترف فوقها بلابل سحرك / أنا صوت جسدته الدهور... إلخ
وسوف نلاحظ على الفور أن هذا المقطع وغيره من شعره المنثور لم يكن يترفع على القافية التي تتحول الى سجع شبه منتظم، لأنها تتوج جملة غير موزونة، وكان يعتمد في شعريته المنثورة على إيقاع التكرار في الكلمات والصيغ والأشكال النحوية، يكسره ليعود اليه، وعلى نوع من كثافة العبارة وتوزيعها على الطور بطريقة شعرية، وعلى تدفق لا يعز على الشعراء الكبار تحقيقه في قصائدهم المطولة أو بقطعاتهم الراقصة، وأنه كان أقرب الى نموذج الشعر المترجم الذي فتنه عند "ويتمان" الأميركي وصادف هوى في نفسه واستجابة جمالية عنده.
ومن هنا فإنني أوثر أن لا أقصر تأملي في أسلوبه على هذا اللون من الشعر المنثور، لأنه لا يختلف كثيراً في النوع عن بقية مستوياته وان اختلف في درجة عشقه للتوافقات الصوتية والتماثلات التركيبية والكثافة التصويرية عن لغته في الكتابة النثرية. وسأحاول اختبار معالم شعريته في ثلاثة مستويات متراتبة:
- مستوى هندسة الجملة في علاقتها بالجمل الأخرى.
- مستوى أنماط الصور في ترابطها مع غيرها.
- مستوى منطق النص وحركته في الحجاج والبرهان ودلالته الأخيرة.
على أن نلاحظ ما بين هذه المستويات من تداخل طبيعي وتخارج إجرائي مقصود تبرزه الشواهد، وتجمل أثره في بؤرة واحدة هي التي تتركب لدى القارىء لتولد إدراكه الكلي للأسلوب الأدبي.
هندسة الجملة
أما هندسة الجملة عند الريحاني فهي تعتمد على عدد من آليات التشكيل الفني، من أهمها التوزيع والتنويع، الإجمال والتفضيل، تشغيل المفارقة من أقوى أشكالها.
وسأختار نصاً عشوائياً من كتابات أمين الريحاني رأى فيه أخوه "ألبرت" عند نشره لأعماله نموذجاً ممثلاً لجوهر كيانه، ونرى فيه نموذجاً ممثلاً لطبيعة أسلوبه، وهو قطعة بعنوان "من أنا؟" كتبها في فترة متأخرة من حياته عام 1936، بعد نضج أسلوبه واستوائه وتمكن ملامحه، إجابة لاستفتاء يقول:
"لو لم تكن أنت نفسك، فمن تود أن تكون؟"
على ما ورد في هامش المقال في الجزء الأول من الريحانيات، والمثير في هذا السؤال أنه يضع الإنسان مرج واحدة أمام نفسه، ليختبر كنهها ويحدد جوهرها وهويتها، ولن تكون لغته سوى التمثيل الحسّ لوعيه بذاته والرسم الكتابي لصورته.
يضع الكاتب السؤال في العنوان: "من أنا؟" وكأنه يطرحه على ذاته مستجيباً لطرح الآخرين عليه" أي يعيد إلقاءه على قارئه ليلخص من جملة أيقونية صغيرة مساحة الرحلة الفكرية الوجيزة التي سيقطعها معه. انه ينشر الوضوح والتحديد، ويشد القارىء معه وهو ينسج خيوط الإجابة المنظمة، وسنكتفي بفقرات دالة منه، إذ يقول: "سؤال يضحك ويغري، ويدعو كذلك للتفكير. يضحك لأنه صبياني، ويغري لأن الإنسان يميل الى التفكه بالمستحيل في بعض الأحايين. ويدعو للتفكير لأن في أعمال النفس البشرية أسراراً ليتوه عندها المستحيل والممكن في هذا الوجود، وتختلط فيها الحقيقة بالخيال".
ومن الواضح في هندسة هذه الفقرة أمران:
أحدهما: أنه يجمل أوصال السؤال المتباينة، بما يثير دهشة قارئه وفضوله، فهو هزلي وجاد معاً. ثم يفصل أسباب هذا التباين اعتماداً على ما كان يسمى في البلاغة القديمة "حسن التقسيم" حيناً، أو "الطيّ والنشر" حيناً آخر، أو ما يحقق نموذج المفارقة التي يؤثرها المصطلح الحديث ويحدث بها لوناً من جمال التوزيع.
وثانيهما: أن كل فقرة تزيد في الطول قليلاً عن الفقرة السابقة عليها، وهذا ملمح جمالي بارز في ايقاع الكتابة النثرية، شرحه وعلل فلسفته "جاكوبسون" في شعريته، والتفت اليه بعض نقاد النثر القدماء في الثقافة العربية على ما بينته في غير هذا الموضع، حيث يميل الكتاب الى تقديم الكلمات والجمل الوجيزة، والانتهاء بالمطولة في تدرج طبيعي محسوب. فإذا جمع مثلاً بين ليلى وفاطمة - قدم الأولى، لا لأنها أصغر أو أجمل، ولكن لأن مقاطعها أقل عدداً من مقاطع أختها الثلاثية. والريحاني في الفقرة السابقة يطبق هذه الهندسة بصرامة شديدة، فالأوصاف مرتبة بشكل تصاعدي في الطول والعمق، والأسباب مفصلة كذلك بالتراتب ذاته. فالضحك سببه الصبيانية، والإغراء نتيجة لميل الإنسان أحياناً للتنذر بالمستحيل، أما التفكير والتأمل فمصدرهما يعود الى ما للنفس الإنسانية من أغوار وأسرار يستوي عندها الممكن والمستحيل في هذا الوجود.
ثم يمضي الريحاني قائلاً في فقرة أخرى توظف المفارقة الى أقصى درجاتها وهو يحدد طبيعة شخصيته:
"إني أشعر وأتيقن، في بعض الأحايين، أن شخصيتي مركبة من شخصيات متعددة، متنافرة متآلفة، هي متنافرة في أشكالها، متآلفة في جوهرها، وفي حلقات سلسلتها الكونية الخالدة... هذه الشخصية هي: عنصرياً: سامية آرية يونانية عربية راجع أديان هذه البلاد.
وهي دينياً: بعلية أدونيسية، توحيدية مسيحية إسلامية صوفية راجع تاريخ هذه الأديان
وهي أدبياً: شرقية غربية، شعرية فلسفية علمية عملية شغفي برجال الشعر والفلسفة من الشرق وحبي لرجال العمل والعمل من الغرب.
وهي سياسياً: أرستقراطية شرقية وديموقراطية غربية أرستقراطية الإرادة، ديموقراطية السلوك، بسيطة مركبة معاً، عالية شاملة، تنشد الحرية والاستقلال للأمم من نطاق الإيمان الإنساني، وفي ظلال الإخاء والسلام.
وان فوق ذلك شخصية الفنان الذي لا يرى الحقيقة والجمال في ما ظهر فقط من الوجود، بل يراهما ويعبدهما في الشكل الخارجي وفي الروح الباطنية معاً. ودعك من استمرار النموذج الهندسي لهذه الفقرة في التوزيع والتنويع والتوازي، وتصور هذا المخلوف الذي يصدق عليه قول الشاعر العربي: وليس على الله بمستبعد / أن يجمع العالم في واحد
وتأمل كيف يجمع تناقضات الأجناس والآداب والسياسات، لتنحلّ عنده جدلياً في الفقرة الأخيرة التي تشير الى سر توافق الأضداد عنده، فهو فنان. ولاحظ معي كيف أن ما يجمعه مع سميه "أمين معلوف" لا يقتصر على مركب "الهويات القاتلة" بل يتجاوز دلك جدلياً الى طبيعة الفن. ومهما كانت فلسفة المعري قد أسهمت في تخليق هذا الوعي بقدر ما فعلت فلسفة ماركس الجدلية فإن حجم المفارقات الموظفة في هذا المقطع تجعل من أسلوب الريحاني نموذجاً يعتمد على بنية التضاد كمولّد أساس للشعرية.
* الجزء الأول من مداخلة الناقد المصري صلاح فضل في المهرجان الذي عقد في لبنان حول الكاتب أمين الريحاني في الذكرى المئوية الأولى لعودته الى لبنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.