مرة اخرى يقيم الفلسطينيون والاسرائيليون حفلاً افتتاحياً يعلنون خلاله بدء مفاوضات الحل النهائي. وقبل ذلك أقاموا حفلاً مماثلاً في العام 1996 قبل أيام على الانتخابات التي أودت بحكومة شمعون بيريز، وجاءت بنتانياهو، على رأس حكومة تحالف الليكود مع الاحزاب اليمينية. لكن ما وقع في ايريز، في الاسبوع الماضي، يختلف عن سابقه اذ يفترض به ان يشكل البداية الحقيقية للمفاوضات النهائية عملاً بما جاء في اتفاق "واي 2". فضلاً ان وقائع احتفال ايريز الأخير، تشير الى ان الطرفين انتقلا الى مرحلة الاستحقاقات الصعبة. فالطرف الاسرائيلي دفع منذ البداية، نظيره الفلسطيني الى الطريق المسدود حتى أعاد وزير الخارجية الاسرائيلي التأكيد على لاءات باراك المعروفة: لا انسحاب من القدسالشرقية، ولا عودة لحدود الخامس من حزيران يونيو أو تفكيك المستوطنات، ولا دولة فلسطينية ذات سيادة، ولا عودة للاجئين الفلسطينيين. وقام رئيس الحكومة ايهود باراك، في محاولة لتأكيد جدية لاءاته وصلابتها، بزيارته المميزة الى مستوطنة معاليه أدوميم ليصرح من هناك ان كل بيت في المستوطنات سيبقى الى الأبد جزءاً من دولة اسرائيل مستعيداً مقولة سلفه نتانياهو. كما قرر في اجتماع استثنائي لحكومته، عقد بالتوازي مع احتفال ايريز تعزيز الوجود الاسرائيلي للقدس الشرقية من خلال موازنة اضافية لاستكمال تهويد المدينةالمحتلة. الرد الفلسطيني بدوره كان معاكساً. حين رفض محمود عباس أبو مازن لاءات ليفي مشدداً على الانسحاب الاسرائيلي وعودة القدسالشرقية وعودة اللاجئين وقيام الدولة المستقلة. وهي مواقف سبق لآخرين، كنبيل شعث ان أعلنوها. كما كان رئيس السلطة الفلسطينية تبناها في خطابه أمام المجلس الوزاري العربي الأخير، ما استدعى رد فعل اسرائيلياً. مثل هذه التصريحات والتصريحات المضادة تعبر عن صعوبة المفاوضات المرتقبة. وعن مدى التعقيد الذي يحيط بمواضيعها حتى ان المحسوبين على "حمائم" العمل كشمعون بيريز ويوسي بيلين تباروا على تأكيد استحالة الوصول الى اتفاق نهائي على القضايا المطروحة خلال عام 13/9/2000. ولعل اكثرهم تفاؤلاً توقع ان تدوم لعامين كحد أدنى. وتوقع المتشائمون ان تدوم المفاو ضات لسنوات تفوق العشر، يدفعهم الى ذلك ادراكهم لصعوبة المفاوضات من جهة، وخبرتهم ومعرفتهم المسبقة بأساليب المفاوض الاسرائيلي وقدرته على التحايل والمماطلة واغراق المفاوضات بالتفاصيل الجزئية والقضايا الصغيرة على حساب الرئيسية. وما يدفع على الاعتقاد بصحة هذا التقدير عن المفاوضات الحالية أنها تدور على البرنامج الذي نجح باراك في فرضه على الجانب الفلسطيني. فالمفاوضات من جهة تسير على مسارين في الوقت عينه. مسار استكمال الاتفاق على ما تبقى من قضايا المرحلة الانتقالية، ومسار البحث في قضايا الحل النهائي. وعلى رغم ان المسارين منفصلان، ان من حيث جدول الاعمال، أو مكان التفاوض، أو آلياته، أو الفرق المعنية به، الا ان هذا الانفصال لا يلغي انهما مترابطان في الوقت نفسه ان من حيث التزامن، أو من حيث تأثير كل منهما على الآخر. ومن جهة اخرى تتم - "النهائية" وفقاً للآلية الاسرائيلية، أي للاتفاق أولاً على ما يسمى بإطار المفاوضات الذي يفترض ان ينجز في شباط فبراير المقبل، ثم الانتقال بعد ذلك وخلال الأشهر الستة المتبقية للاتفاق على التفاصيل وضمن الاطار المقترح. في هذا الجانب من الضروري التنبيه الى تصريحات باراك التي حملت في طياتها تهديدات واضحة للجانب الفلسطيني. اذ وضع باراك المفاوض الفلسطيني أمام خيارين: الأول القبول بالرؤية الاسرائيلية وفهمها لموضوع "الإطار" وهما رؤية وفهم يترجمان لاءات باراك الى قرارات واتفاقات بين الجانبين تقود الى حل خلال عام. لكنه حل لا يخدم الا المصلحة الاسرائيلية ويحوّل المرحلة الانتقالية - عملياً - الى سقف للحل النهائي. وتصبح وظيفة المفاوضات والحال هكذا، دفع الجانب الفلسطيني للاعتراف بهذا الواقع والتسليم به. أما الخيار الثاني، كما يراه باراك، وفي حال لم يتفق الطرفان، فهو الدفع بالمفاو ضات نحو سقف زمني غير محدد. وهو ما يقود بالنتيجة الى تحويل الوضع الحالي لمناطق الضفة والقطاع الى حل نهائي بقوة الأمر الواقع. فمفاوضات الزمن المفتوح هي في حقيقتها تجميد للوضع على ما هو عليه مع الادعاء بسلامة سير المفاوضات. هذا التقدير لواقع حال المفاوضات كما انطلقت في ايريز هو ما دفع على الاعتقاد أن الجانب الفلسطيني دخلها منذ اللحظة الأولى بخطوات خاطئة لا تبشر بالخير، واشاعت في صفوف الفلسطينيين أجواء من التشاؤم والاحباط. فالوفد المفاوض لا يضم في صفوفه وجوهاً جديدة. وهو يذكر، بتركيبته المعروفة، بالمفاوضات السابقة، بكل ما حملته من تنازلات وتراجعات. علماً ان المسألة لا تكمن فقط في حسن اختيار الاشخاص، بل وكذلك بالشروط التفاوضية التي تتيح للاشخاص التسلح بأوارق القوة والإمساك بها والضغط بواسطتها على الطرف الآخر لزحزحة مواقفه وارغامه على التراجع. والشروط الراهنة كما أسلفنا، هي أخفض من ان توفر للوفد الفلسطيني المفاوض مثل هذه الأوراق. أما التصريحات التي أطلقها اعضاء الوفد، فإنها لا تشكل على الاطلاق ضمانة لحسن الأداء. وسبق لهذا الوفد، في مفاوضات سابقة ان أطلق تصريحات لا تقل صلابة عن تصريحاته الاخيرة، الا ان آليات التفاوض وشروطه، وموازين القوى المتحكمة كانت أكثر قدرة على تحويل هذه التصريحات الى حلقات من الضباب انقشع في اللحظة قبل الأخيرة على نتائج مذهلة في مأسويتها. وخير مثال على صحة هذا التقرير موقف اللجنة المركزية لحركة فتح التي أقرت في اجتماعها الأخير في القاهرة رفض اعادة التفاوض على ما تم التفاوض عليه. ومع ذلك جاءت مذكرة شرم الشيخ الواي 2 نقيضاً لهذا القرار علماً ان الوفد المفاوض الذي قادنا الى مذكرة شرم الشيخ يشكل جزءاً من "مركزية" فتح. الى جانب هذا يظل المراقب المحايد يتساءل كيف سيخوض الجانب الفلسطيني معركته التفاوضية. وكيف سيزحزح الطرف الاسرائيلي عن مواقعه المتعنتة. وأين هي أوراق قوته وعناصره؟ ان التجربة القصيرة لحفل افتتاح ايريز الأخير توفر القناعة - مرة أخرى - بأن السير على طريق المفاوضات السابقة لن يقود الا نحو المزيد من التدهور. وان الطريق الذي يقود الى ضمان مصالح الطرف الفلسطيني، في الداخل، كما في الشتات، هو في مغادرة برنامج باراك، وتوفير كل المقومات الضرورية لبناء سياسة تفاوضية جديدة، لا ينفرد خلالها الطرف الاسرائيلي وحده بفرض وقائع مسبقة، بل يكون فيها الشارع الفلسطيني طرفاً فاعلاً في فرض هذه الوقائع. والطريق الى تفعيل دور الشارع يعرفه جيداً من يرغب في ولوجه. * كاتب فلسطيني.