صادفت الأسبوع الجاري الذكرى السنوية الستون للمجزرة التي نفذها الجيش الإسرائيلي في قرية قبية الفلسطينية القريبة من رام الله (حين كانت والضفة الغربية تحت حكم المملكة الأردنية) وهدم فيها 45 منزلاً فوق رؤوس 69 من سكانها. وكانت هذه المجزرة الثانية التي قادها وشارك في تنفيذها الضابط الشاب (25 عاماً) في حينه رئيس الحكومة لاحقاً أريئل شارون على رأس وحدة خاصة عرفت ب «الوحدة 101» تم تشكيلها صيف عام 1953 «للرد على تسلل فدائيين فلسطينيين من الأراضي الأردنية إلى بلدات يهودية»، ونفذت عمليات قتل ومذابح على مدار خمسة أشهر. وكعادتها، حاولت إسرائيل في حينه وبلسان رئيس حكومتها ديفيد بن غوريون الادعاء بأن جيشها لم يقم سوى بهدم البيوت، وأن القتلى «ربما قتلوا على أيدي سكان البلدات اليهودية المجاورة». لكن الفلسطينيين والعالم فندوا الرواية ليتضح لاحقاً، وباعتراف ضباط كانوا شهوداً على المجزرة، وبعد سنوات باعتراف شارون نفسه، أن «الوحدة 101» نفذت المذبحة. وطبقاً لكتاب صدر قبل سنوات قليلة تناول سيرة شارون تحت عنوان «الراعي» وضعه الصحافيان نير حيفتس وغادي بلوم، فإن المذبحة التي نفذها شارون (وكان يحمل في حينه اسم أهارون شاينرمان) في قبية كانت العملية العسكرية الثانية ل «الوحدة 101». ونشطت الوحدة التي تشكلت من 25 مقاتلاً، خمسة أشهر فقط، «لكن عملياتها العسكرية بقيت عالقة في التاريخ العسكري للجيش وفي الذاكرة الجماعية لشعب إسرائيل بعد أن نجحت في فترة قصيرة في إعادة بلورة أنماط نشاط الجيش وأعادت إليه قدراته الردعية... وأتاحت للحكومة تغيير استراتيجيتها العسكرية والسياسية تجاه العالم العربي، في موازاة انتقادات شديدة على استخدامها المفرط للقوة العسكرية والعنف والخرق السافر لقواعد الانضباط المتبعة في الجيش»، كما كتب المؤلفان. وقبل المذبحة الإجرامية في قبية بأسبوعين، أعطت قيادة الجيش شارون الضوء الأخضر للقيام بأولى عملياتها: ضد عشيرة العزازمة في النقب بداعي تسلل أبنائها إلى النقب للإقامة فيه، فقامت الوحدة بإحراق الخِيم التي نصبها أبناء العشيرة، ونجحت في حملهم على العودة إلى سيناء. وطبقاً للمؤلفيْن، أبدى قادة الجيش رضاهم عن نجاح العملية، ووافقوا على طلب شارون القيام بعملية انتقامية في مخيم البريج في قطاع غزة (الذي كان تحت حكم مصر) تم تنفيذها أواخر أيلول (سبتمبر) عام 1953 حصدت أرواح 20 شهيداً، «ليسود الانطباع لدى قيادة الجيش بأن الوحدة 101 هي فعلاً القبضة المرعبة والرادعة الأكبر التي في حوزة الجيش». وبرأي المؤلفيْن، فإن مجزرة البريج جعلت من شارون شخصية معروفة لدى الإسرائيليين، «إذ نالت هذه الوحدة الهيبة والوقار كونها لا تخاف شيئاً، ومن أخرى ازدادت الأصوات المنتقدة لاستخدامها المفرط للقوة حتى في حال رأت أن عمليتها تؤذي أبرياء». وبعد أسبوعين من مجزرة البريج، ووفقاً للرواية الإسرائيلية، تسلل فلسطينيون من بلدة قبية إلى بلدة «يهود» شرق تل أبيب، وألقوا قنابل على بيت مأهول أودى بحياة امرأة وطفليها، فقرر الجيش بتعليمات من رئيس الحكومة ووزير الدفاع، مهاجمة القرية التي جاء منها القتَلة. وتم تكليف «الوحدة 101» ووحدة المظليين من كتيبة «غولاني» هدم 50 منزلاً. ويوم 14 تشرين الأول (أكتوبر)، حشد شارون 100 مقاتل (مستعيناً بوحدة المظليين)، وليس قبل أن يتلقى تحذيرات من رئيس شعبة الاستخبارات موشيه دايان بالحذر من إيقاع خسائر كبيرة في الأرواح»، وهدم بضعة بيوت إذا تعقدت العملية. وفي ساعات المساء، حمّل شارون مقاتليه 500 كليوغرام من الديناميت «كانت كفيلة بمحو القرية كلها»، بحسب الكاتبين، وتوجهوا نحو بيت نبالا، ومنها ساروا على الأقدام ثمانية كيلومترات حتى قبية، وهاجموها من شرقها وغربها، «واستغرق احتلال القرية أربع ساعات ونصف الساعة وفجروا 42 منزلاً، وعملياً هدموا قبية من أساسها ... وعادت القوة سالمة». وأبلغ شارون دايان بأن العملية نجحت، وانه «قتل فيها فقط 12 جندياً أردنياً». واعتبرت قيادة الجيش العملية نجاحاً باهراً، لكن كذبة شارون لم تصمد أمام تقارير وسائل الإعلام في العالم العربي بأن 69 شخصاً قتلوا، نصفهم من النساء والمسنين والأطفال الذين قضوا تحت الأنقاض. وفي لقائه مع قادة الجيش، ادعى شارون أنه «بعد احتلال القرية، تم تفجير البيوت الكبيرة واحداً تلو الآخر، ولم نسمع صوت أحد في داخلها... دخلنا كل الغرف وأضأناها بالفوانيس، وفقط بعد ذلك فجرنا البيت... الظاهر أن معظم السكان هربوا... كنت تقريباً في كل البيوت ولم أصادف أناساً... لم نقم بأي عمل وحشي». لكن شارون أقر بعد 39 عاماً في مقابلة صحافية بأن «الهدف المركزي من وراء هذه العملية كان قتل أكبر عدد من الناس». وبالرغم من موجة الاحتجاجات العالمية على المجزرة والانتقادات داخل إسرائيل ومن جنود في «الوحدة» لشارون واتهامه بالتلفيق، أصر بن غوريون على دعم العملية دعماً مطلقاً حين بث «خطاباً للأمة» بصوته قال فيه: «بعد أن أجرينا فحصاً دقيقاً، تبيّن لنا أن الوحدات العسكرية كانت في قواعدها بعد العملية»، مضيفاً أنه «ربما يكون وراء عملية الانتقام التراجيدية سكان بلدات يهودية على الحدود ... قد تكون مجموعة مواطنين ضاقت ذرعا من تسلل الفدائيين فقررت الثأر للقتلى الإسرائيليين... وحكومة إسرائيل تنأى بنفسها عن هذا العمل وتتحفظ منه وتندد بالمواطنين الذين أخذوا القانون لأيديهم». ويضيف الكاتبان: «اعتقد بن غوريون أن الكذب لما فيه مصلحة الدولة سيُسامَح عليه». واستدعى بن غوريون الضابط شاينرمان (شارون) وهنأه وأفراد الوحدة على «العملية المباركة»، وشد على يديه قائلاً: «لا يهمني كيف ينظر العالم إلى ما حدث في قبية... المهم كيف يُنظر لها هنا في الشرق الأوسط، وبهذا المعنى فهي تتيح لنا أن نواصل العيش المريح هنا». واقترح على ضيفه أن يغير اسمه إلى آريئل شارون.