فجأة أصبح حديث توطين الفلسطينيين على كل شفة ولسان. وفجأة تبرع عدد من الاعلاميين العرب ليكونوا اللسان الناطق بقبول التوطين، وثارت حميتهم الانسانية حول غبن العيش الذي يعاني منه اللاجئون الفلسطينيون. لماذا هذه الحمية المفاجئة؟ ان ما يعاني منه اللاجئون الفلسطينيون في بعض البلاد العربية قائم منذ زمن طويل، ولم نسمع طوال تلك المدة ان هؤلاء الاعلاميين يطالبون بالتوطين، وحين أوغلت احدى العواصم العربية في التضييق على الفلسطينيين المقيمين فيها، وأمرت باجراءات غير منطقية وغير انسانية لم يتحرك هؤلاء الاعلاميون ايضاً، ولكن الحرارة دبت في أقلامهم عندما اقتربت مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين، فبدا وكأنهم يؤيدون الموقف الاسرائيلي الداعي للتوطين، ويعارضون الموقف الفلسطيني الرافض للتوطين. هذه مقدمة لا بد منها، لتوضيح ان ليس كل ما يقال دفاعاً عن الفلسطينيين هو دفاع عنهم بالفعل. وهذه مقدمة لا بد منها، لتنبيه هؤلاء بأن ما قد يظنونه رفضاً ل"العنصرية" العربية حسب وصفهم، قد يفسر على انه دفاع عن العنصرية الصهيونية، أو سكوت عنها في أحسن الأحوال. إن الدعوة لتوطين الفلسطينيين في البلاد العربية دعوة قديمة، تتحمس لها اسرائيل وتتبناها الولاياتالمتحدة الاميركية باستمرار. ومنذ العام 1950 أطلت مشاريع كانت تسمى مشاريع الاسكان، ورأى فيها اللاجئون الفلسطينيون دعوة لتوطينهم، فنظموا المظاهرات والاحتجاجات رفضاً لتلك المشاريع، مع ان مضمونها لم يكن يتجاوز آنذاك تقديم ما يكفي لبناء غرفة للسكن. ثم تطور الموضوع الى ما هو أكبر، وانتقل من مخاطبة الأفراد الى مخاطبة الدول، فبرز مشروع جونستون في السنوات 1953 - 1956 وأيام الرئيس الاميركي ايزنهاور، لتنظيم اقتسام مياه المنطقة بين العرب واسرائيل، ووعدت الحكومات العربية بأموال كثيرة لتنمية بلدانها وزراعتها بشكل خاص، اذا هي وافقت على مشروع المياه وعلى توطين الفلسطينيين في أراضيها. وأثناء ذلك، برز مشروع توطين جزء من الفلسطينيين في صحراء سيناء، وأعدت من اجل ذلك دراسات ميدانية كاملة، ونشرت الدراسات في كتب جاهزة، ولكن انفجار حرب العام 1956 العدوان الثلاثي على مصر ألغى البحث من أساسه. وبرز في الفترة نفسها مشروع توطين الفلسطينيين في ليبيا، وانتهى البحث في الموضوع مع سقوط النظام السنوسي هناك. ومرت سنوات تلاشى فيها البحث في هذا الموضوع، ثم جدت تطورات وضعت مجرى البحث في القضية الفلسطينية في اطار مختلف الثورة الفلسطينية، ولم يعد البحث ليتجدد في هذه المسألة إلا عند انعقاد مؤتمر مدريد أواخر 1991، وفي اطار البحث عن حل تفاوضي للصراع العربي - الاسرائيلي وللقضية الفلسطينية، وهو يتجدد الآن بحرارة أكبر مع بدء مفاوضات الحل الدائم أو الحل النهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وما حدث في السابق يحدث الآن. اسرائيل تتولى طرح الموضوع والولاياتالمتحدة الاميركية تتولى الترويج له، والضغط على الدول العربية من أجل القبول به. اسرائيل تتصرف على اساس انها ترفض من حيث المبدأ البحث بمسألة عودة اللاجئين، والولاياتالمتحدة تعمد بكل الوسائل لإلغاء قرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن المتعلقة بفلسطين، وفرض الاستناد فقط الى اتفاق اوسلو كأساس للحل والمعالجة. لقد جرت المفاوضات بعد مؤتمر مدريد على قاعدتين، قاعدة التفاوض الثنائي في واشنطن، ولم يكن موضوع اللاجئين مطروحاً في اطار هذه المفاوضات. وقاعدة "التحاور" وليس "التفاوض"، في اللجان المتعددة الجنسية، حيث كانت هناك لجنة خاصة بموضوع اللاجئين. وفي هذه اللجنة التي عقدت اجتماعها الأول في كندا 12/5/92 جرى الاتفاق بين المتواجدين على اعتبار القرار 194 الصادر عن الاممالمتحدة عام 1948، والقاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، أساساً للبحث. ولكن في الجلسة الثانية المنعقدة بتاريخ 11/11/92، جرى، وبضغط اسرائيلي - اميركي مشترك إلغاء اعتماد القرار 194 كمرجعية للبحث. وحين تم الغاء هذه المرجعية بدأ تركيز البحث على الجانب الانساني، وليس السياسي، في موضوع اللاجئين، أي البحث في السكن والتعليم والصحة... الخ. وفي سياق هذا البحث "الإنساني"، قامت وفود كندية بزيارات الى بعض الدول العربية، ومنها لبنان، وشاع ان المندوبين الكنديين يبحثون في توطين لاجئي لبنان، وبرز رد فعل رسمي لبناني معارض بشدة، ولكن الجهد اللبناني توجه إثر ذلك نحو الضغط على الفلسطينيين، ولم يتجه وجهته الصحيحة نحو الضغط على الذين يسعون ويروجون لتوطين الفلسطينيين حيث هم. إن موضوع التوطين لا يمكن ان يتم الا بالاستناد الى موافقة طرفين: الدولة المعروض عليها ان تقبل بالتوطين، والشعب الفلسطيني الذي يراد توطينه. ونحن لم نسمع حتى الآن ان دولة عربية وافقت على توطين الفلسطينيين في أراضيها، كما لم نسمع حتى الآن عن قيام أي تحرك فلسطيني باتجاه دعم التوطين والقبول به. ولكننا سمعنا عن دراسة أعدها "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك، وهو مجلس يعمل في خدمة اللوبي الصهيوني، وجرى تقديم هذه الدراسة في مؤتمر صحافي عقدته المحامية "دونا إرزت" في 28/1/97 في واشنطن، ودعت فيه الى "وقف الحديث عن حق العودة" والى توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، والى انشاء صندوق تساهم فيه الدول العربية لتغطية نفقات التوطين. تم اعداد هذه الدراسة بين العامين 1993 - 1994، وتقع في 232 صفحة، وتدعو الى: التخلص من عقلية اللجوء واستبدالها بمفهوم اقليمي لاستيعاب اللاجئين بشكل نهائي. وقف الحديث عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وعدم التركيز على الماضي. انشاء صندوق للتعويضات تساهم فيه دول خليجية عربية مثل السعودية والكويت، ودول غربية بينها الولاياتالمتحدة وفرنسا وكندا واستراليا. تقترح الدراسة ان يستوعب لبنان 75 ألف، وسورية 400 ألف، واسرائيل 75 ألف: لم شمل، والأردن 2 مليون. ويلفت النظر هنا ان المحامية التي أشرفت على اعداد هذه الدراسة هي التي ساهمت في توطين اليهود السوفيات في اسرائيل. وما يغيب عن هذا المناخ في التفكير، هو الجانب السياسي للمسألة، سواء كان الجانب السياسي الذي يتعلق بتاريخ المشكلة، أو الجانب السياسي الذي يسعى الى حل للمسألة الفلسطينية. وبغياب هذا الجانب السياسي يتحول موضوع التفاوض الذي يجري بين السلطة الفلسطينية واسرائيل الى بحث في تصفية آثار حرب حزيران يونيو 1967. وفي اطار حل يركز على نتائج حرب 1967 فقط، لا يمكن القول ان المسألة الفلسطينية قد عولجت من قريب أو بعيد، ولهذا فإن ما يمكن ان يسفر عن المفاوضات، حتى في حال نجاحها، هو اتفاق ينهي حالة النزاع، ولكنه لا يمكن ان يتوصل بأي حال من الاحوال الى اتفاق سلام. ولا نظن ان السلطة الفلسطينية يمكن ان توقع اتفاق سلام اذا لم يكن هناك مجال لحل قضية عودة اللاجئين الى وطنهم. وحالياً تجري عملية اسرائيلية كبيرة للتحايل على هذه المسألة، وستكون مفاوضات "اتفاق الإطار" التي ستستمر خمسة اشهر، هي ميدان بروز عملية التحايل هذه. أولاً سترفض اسرائيل ان تستند الى القرار 194 أو أي قرار آخر من قرارات الشرعية الدولية اتفاقات جنيف مثلاً في معالجة المشكلة. ثانياً ستقترح تأجيل البت بها، أو الاتفاق على تفاوض طويل حولها يصل الى عشرين عاماً، وستكون الصيغة العملية لهذا التحايل كما يلي: أولاً: تقسيم قضايا الحل الدائم الى نوعين، نوع يمكن الاتفاق عليه مثل قضايا الحدود والمستوطنات والمياه، ونوع آخر من الصعب الاتفاق عليه مثل القدس وعودة اللاجئين. ثانياً: طرح فكرة حق العودة من خلال مضمون جديد هو: حق العودة الى أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني، أو الى أراضي الدولة الفلسطينية اذا قامت. ثالثاً: تحميل الدول العربية مسؤولية أخلاقية، بحجة انها لم تفعل الكثير لتوطين اللاجئين في أراضيها كما فعلت اسرائيل مع اليهود المهاجرين اليها. والهدف هنا هو المساواة بين الهجرة اليهودية الطوعية الى اسرائيل، وعملية الطرد والتهجير العرقي التي مارستها اسرائيل في حق الفلسطينيين. رابعاً: طرح مسألة التعويض المتبادل، وعلى قاعدة أملاك اليهود الذين تركوا الدول العربية، مقابل أملاك الفلسطينيين الذين طردوا من فلسطين. أما على الصعيد الدولي، فإن محاولات دؤوبة تجري سراً لاقناع الدول العربية بقبول فكرة التوطين. وهناك كثير من المصادر التي تؤكد ان الولاياتالمتحدة تجري مشاورات سرية مع العراق لكي يقبل بتوطين حوالي مليون فلسطيني أو اكثر مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنه، ولا يزال العراق يرفض ذلك. كذلك تجري الولاياتالمتحدة اتصالات مع أكثر من طرف عربي لتغريه بكمية من القروض تقدم له في اطار مشاريع لاستيعاب اللاجئين وتوطينهم. وما يجب ان يلاحظ هنا، ان اللاجئين الفلسطينيين الذين يتجاوز عددهم الأربعة ملايين نسمة، يشعرون بقلق شديد من كل هذا الذي يجري حولهم، وتتكاثر في أوساطهم الدعوات لتشكيل لجان وجمعيات تدافع عن حق العودة، أو تفكر بوسائل قانونية للمطالبة بحقوقهم الناجمة عن استعمال أملاكهم في فلسطين من قبل الغير. وتشكل هذه الدعوات ارهاصات لعمل سياسي مستقبلي يتركز حول حق العودة، ويكون هو البديل عن توجه الكفاح المسلح في الفترة السابقة. وما يجب ان يلاحظ هنا ايضاً، هو ان الجزء الآخر من الشعب الفلسطيني الذي يعيش في ظل دولة اسرائيل، يشعر هو ايضاً بالحاجة الى عمل سياسي من نوع جديد، يعوض به تخلي اتفاقات اوسلو عن البحث في قضيته ومصيره. ونلمس هنا ظواهر من نوع خاص ومختلف، فبروز تيار المطالبة بدولة ديموقراطية لمواطنيها، وليس دولة اليهود، ثم اعادة احياء حركة الأرض التي تأسست في الخمسينات وكانت تعبر عن الانتماء القومي لعرب فلسطين، ثم بروز اسهام في العمليات الفدائية التي جرت مؤخراً في طبريا وحيفا، يؤشر كله الى حال من التململ من الممكن ان تؤشر لولادة عمل سياسي من نوع خاص. ان حركة اللاجئين الفلسطينيين هي التي اطلقت تيار الثورة الفلسطينية عام 1965، ولا شيء يمنع من ان تلعب حركة اللاجئين الفلسطينيين مرة اخرى، مسنودة بتحرك الفلسطينيين داخل دولة اسرائيل مليون نسمة، دور الرافعة في اطلاق تيار العمل السياسي الذي يؤكد من جديد، على ان القضية الفلسطينية لا تزال قائمة من دون حل، وان موضوع اللاجئين فيها ليس سوى العنوان، وان اتفاقات اوسلو وتطبيقاتها لم تستطع ان تمس جوهر المشكلة الأم، وان ما جرى كله لا يتجاوز معالجة نتائج حرب حزيران 1967. * كاتب من أسرة الحياة.