عقدت منظمة الوحدة الافريقية مؤتمرها الرئاسي في الجزائر منتصف الشهر الماضي. ولمكان القمة وتوقيتها الزمني دلالات لا تخفى عند المتتبعين ولدى الدول المحافظة على مصالحها والساعية إلى استمرارها، والباحثة عن موطئ قدم لها في عالم تتنافس فيه الدول لضمان مواقع لمجموعاتها الاقتصادية والتجارية كدول الاتحاد الأوروبي بالخصوص والتي لم نتعلم بعد كيف ننقل عنها طرق العناية بغيرها كدول استعمارية قوية ما دام "المغلوب ولعاً باتباع الغالب"، على قولة ابن خلدون. فعلى رغم النشاط الديبلوماسي المشهود لبعض الدول العربية مصر وليبيا والجزائر التي استضافت القمة تبدو القارة الافريقية بعيدة من أن تشكل جانباً من التفكير العربي، الرسمي أو الثقافي، بالخصوص لدى الفئات التي نذرت نفسها لهذه المهام، وفي ظل الامتداد التاريخي والثقافي المشترك بين المجموعتين القارية والجهوية. وتنبع الحاجة لذلك بسبب ما تمثله بعض الدول العربية ضمن صورة افريقيا لدى مراكز التقدير والمتابعة الاستراتيجية حيث يصنف العالم بالجغرافيا وليس باللغة، لتكون المنطقة العربية جانباً من افريقيا والشرق الأوسط. لذلك يبدو الاهتمام بمحدثات الحياة في القارة الافريقية ضرورة لتفهم العلاقات وهي تميل الآن إلى المراكز الجديدة، وإلى تحول في مواقف بعض الدول من علاقاتها بالعرب في ضوء العبور الآمن الذي تهيأ لإسرائيل إلى قلب القارة، بل إلى الافادة من التحولات المجتمعية والديموقراطية التي تعرفها بعض الدول الافريقية فيما أغلب الدول العربية ما زالت تعيش تدبير الرعية بطرقها القروسطوية. بل وتقدم المجموعة الافريقية في اتفاقها على اللقاء في طرابلس أيام 7 و8 و9 من شهر أيلول سبتمبر 1999 درساً رفيعاً آخر في تحيين مواثيقها التنظيمية لتلائم متغيرات العالم وهي المهمة التي عجزت العرب عنها. عقدت القمة الافريقية الأخيرة ومشهد القارة السوداء لم يتغير عما كان عليه إبان القمة السابقة من أوضاع ونوعية القضايا المطروحة التي لا تني تتحول إلى معضلات مجتمعية وسياسية عديدة تعاني منها الدول، ولم تتغير من أجندة المنظمة الافريقية منذ نهاية معاركها من أجل الاستقلالات الوطنية لبعض الدول. فقضايا الحروب الداخلية والاستقرار السياسي، وقضايا التنمية والاستعداد الاقتصادي والتأهيل البشري. وإذ لم يعد كافياً القول بوجود أيادٍ أجنبية خلف متاعب ومآسي القارة، فإن بحث الأسباب يفضي إلى الإقرار بأن الأفارقة أصبحوا أكثر من أي وقت مضى مسؤولين عن واقعهم ومصيرهم، على رغم استفادة الأجانب من خلافاتهم وصراعاتهم. ولهذا السبب يجب على النقاش العربي بالخصوص حول افريقيا والعلاقات معها أن يتجاوز أمكنة الهشاشة والتصدع: التفاؤل أو التشاؤم من الامكانيات والمستقبل، للتركيز على فرص البناء والفعل المشترك. وتظهر المناسبات، كالمشار إليها أعلاه، الحاجة الفعلية للانتباه إلى البياض المريع الذي تمر منه العلاقات العربية - الافريقية لضعف المبادرات والاهتمام المتبادل، ومسؤولية الجانب العربي في ذلك، نتيجة للمآزق العربية العديدة، وتقلص الدور العربي على الساحة الدولية لانهيار المواجهة مع إسرائيل، أو لتراجع الاستثمارات واستبدالها أوروبية وأميركية في سباقات العولمة التجارية والاقتصادية. والحال ان قتامة المشهد العربي لا تلغي وجود فرص عمل مشترك، تجد خلفيتها في التاريخي والثقافي، في الديني والمجتمعي... مما يمس قضايا تركة الاستعمار والتعليم، مظاهر التخلف والحروب، وضعية المرأة وتنامي الهجرات في أشكالها مما تنوء تحته دول القارة، عربية كانت أم افريقية. إلى ذلك، تقدم افريقيا كما الدول العربية! انموذجاً اقتصادياً لافتاً، يتميز بظاهرتين: أولاهما توزعها إلى مجموعتين متباينتين في اقتسام حظوظ التنمية، مجموعة تتطلع إلى الانتماء للعولمة، وأخرى غارقة في مصير الاضطرابات والفوضى السياسية والاقتصادية التي تعصف بها، وثانيتهما ظهور الفئات والنخب الاقتصادية والسياسية الساعية إلى إحلال الاستقرار والديموقراطية في بلدانها، ولو كان ذلك في ارتباط مع الجهات والدول الاستعمارية سابقاً، والتي نصبت نفسها وصية على أكثرية الدول الافريقية وجعلت منها حقلاً للتجارب السياسية والاقتصادية عبر توصيات حقوق الإنسان وصندوق النقد الدولي. ولذلك تجد دول القارة نفسها في وضع المفارقات العديدة، فبعد تفكك العلاقات السرية مع الدول المستعِمرة وبداية الاهتمام الأميركي واستمرار النكبات والمعضلات نفسها، لا تقوى أغلب دول القارة على استبصار مواقعها ولا أوضاعها في غير ارتباط بالمراكز الغربية وبالقيم المعولمة على رغم ما تبينته من أوهام ارتبطت بها رؤيتها الأولى إلى فرص العولمة، والتي حالت دون الاستفادة منها امكانيات الانتاج المتكافئ مع الدول الكبرى، والاعتماد فقط على المواد الأولية وغياب شروط الانتاج بحسب معايير الجودة التي صارت عالمية بشهادات إيزو مثلاً، بل أفقدتها عاداتها وتقاليدها في الانسجام المجتمعي وحسن الجوار وتبادل المنافع. لذلك السبب لم يكن مفاجئاً وضع العولمة في قفص الاتهام والمواجهة لدى صياغة بيان القمة الأخيرة، فبعدما بدأت التسعينات واعدة بالنسبة للقارة، إذ تصادفت نهاية بعض حروب القارة وتحرر بعض الدول من أنظمتها الاستعمارية والعنصرية أنغولا، جنوب افريقيا... سماع أولى ارهاصات الديموقراطية وحقوق الإنسان مع ما رافق ذلك من ابدالات جذرية في إدارة وتدبير الحياة العامة عبر المرافق والمؤسسات التي أنست عهود أبطال الاستقلال وفتحت العيون على قوى الحداثة السياسية والاقتصادية الدائبة في العالم المعاصر. ولذلك، وبعد التغيرات التي ساهمت فيها ظروف محلية وأخرى أجنبية ضمن صراع المصالح والقوى في القارة وعرابي الانتقالات والقيم المحدثة، وفي مقدمهم الولاياتالمتحدة بما تقوم به من عمل استراتيجي في منافسة مفتوحة وتحد واضح لمصالح فرنسا والمملكة المتحدة، انتبه الافارقة إلى أن الانفتاح بالعولمة كمنافع اقتصادية وتجارية سرعان ما تراجع إلى حالات تجد فيها الدول نفسها تراوح وضعها الاقتصادي الهش، من دون أن تجني فائدة تذكر مما وُعدت به... بل هي تعاني من نزيف مالي لانتقال فوائد التخصيص والاستثمارات الأجنبية إلى خارج بلدانها، ما يبقي حالات التخلف والتبعية ذاتها، ويقضي على فرص استغلال برامج التنمية لموارد البلدان على أفضل وجه. * كاتب مغربي.