منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الاميركية، وكانت في ذلك الحين بداية الثلاثينات تعيش واحدة من أسوأ سنوات تاريخها، بدا من الواضح ان فرانكلين روزفلت شخص مختلف تماماً عن معظم السياسيين الاميركيين، وانه - كرئيس - سيكون مختلفاً أيضاً. وبالفعل خلال ولاياته الثلاث المتعاقبة لم يفت ذلك الرئيس الديموقراطي، بالمعنى الحزبي وبالمعنى المجرد للكلمة، ان يبرهن في كل لحظة على اختلافه عن الرؤساء الاميركيين السابقين له، وعن ارتباطه بالتقاليد التي كان ارساها رؤساء كبار في تاريخ امته، من واشنطون الى لنكولن، مروراً بجيفرسون. ولئن كان روزفلت قد حقق المعجزات على صعيد السياسة الداخلية ب"صفقته" التي اعادت الحياة الى الاقتصاد الاميركي، الذي كان يحتضر عند وصوله الى السلطة، وأوقفت الانهيار الشامل الذي انطلق من الوضع المالي الى الاقتصادي وصولاً الى الاجتماعي ثم السياسي، فإن هذا الرئيس عرف على الصعيد الخارجي كيف يسجل نقاطاً لصالحه وصالح "الديموقراطية الاميركية" - كما كان هو يتصورها. ونبادر منذ الآن الى القول انه سوف يدفع ثمن ذلك كله، بعد رحيله في العام 1945. اذ من المعروف ان الحملة الماكارثية التي قامت، في الظاهر، للتصدي لما كان السناتور ماكارثي يسميه "الخطر الاحمر"، اي التغلغل الشيوعي في الميادين الحكومية والثقافية وخصوصاً في هوليوود، قامت في حقيقتها لضرب المنجزات الروزفلتية، وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية والجيش. ولكن هذه حكاية اخرى بالطبع. الحكاية التي تهمنا هنا، تتعلق بواحدة من اولى الخطوات الكبيرة والايجابية التي اتخذها الرئيس فرانكلن روزفلت، وكانت تتعلق بالسياسة الاميركية في اميركا اللاتينية. فالرئيس الاميركي الذي كان وصل الى الحكم حديثاً، قال في تصريح ادلى به يوم 7 آب اغسطس 1934 ان "الولاياتالمتحدة الاميركية تريد ان تعيش جيرة طيبة مع بلدان أميركا اللاتينية". وفسر كلامه بأنه انما يريد عبر هذا الكلام ان يضع حداً للتدخل السافر الذي كانت بلاده تقوم به في اي مكان في القارة اللاتينية، ومنذ عشرات السنين. كانت غاية روزفلت الأساسية ان يعيد الى الاذهان صورة ناصعة كانت لبلده، قبل ان يكثر تدخلها في الشؤون الداخلية لبلدان اميركا الجنوبية. فالمعروف ان الولاياتالمتحدة كانت طوال القرن التاسع عشر تمثل صورة مثلى لجيرانها الجنوبيين. ولكن فيما بعد، حين لم يعد هناك وجود للمحتلين الاسبان او البرتغاليين في معظم دول اميركا اللاتينية، وحين راحت هذه الدول تتطلع الى الاستقلال الاقتصادي، وجد معظمها نفسه على تجابه مع المصالح الاميركية الشمالية. فالحال ان الشركات الاميركية كانت عرفت كيف تتسلل بالتدريج حتى صارت مسيطرة على المقدرات الاقتصادية لدول الجنوب. وبالتالي، لأن لا اقتصاد من دون سياسة، بات من المعتاد ان تتدخل الجيوش الاميركية والسفارات الاميركية، مساندة للمصالح الاقتصادية الاميركية في كل مرة تعرضت فيها هذه المصالح الى الخطر. ومن هنا صار معظم الثورات والانتفاضات الوطنية والاجتماعية، سرعان ما يتخذ سمة التصدي للنفوذ الاميركي. ولطالما حدث، على مدى عقود طويلة، ان ارسلت واشنطن قوات - بشكل سافر -، او معونات الى قوى محلية، لاسقاط رئيس، او اجهاض ثورة. وكان من الطبيعي لهذا كله ان يؤدي الى حالة عداء كانت ضحيتها صورة الولاياتالمتحدة كبلد ديموقراطي تقدمي. وكان من الواضح ان هذه الصورة هي ما يريد الرئيس فرانكلين روزفلت استعادته الآن. وهو بدأ يفعل ذلك لمناسبة مفاوضات اجراها مندوبوه مع الكوبيين في ربيع ذلك العام نفسه، وكان الهدف منها الاتفاق على امتناع البحرية الاميركية عن التدخل في شؤون كوبا، مقابل بقاء قاعدة غوانتانامو التابعة للبحرية الاميركية، على الأراضي الكوبية. ولقد كانت تلك الاتفاقات ناجحة، وشملت ايضاً الاتفاق على انهاء الولاياتالمتحدة احتلالها لهايتي، الذي كان متواصلاً منذ تسعة عشر عاماً، مقابل رقابتها المستمرة على مالية هذه الدولة. والجدير بالذكر هنا، ان البحرية الاميركية كانت منذ بدايات ذلك العام، منتشرة في محيط كوبا، تراقب عن كثب تطورات الاحداث هناك بعد ان كان وصل الى السلطة نظام الرئيس غراوسان مارتان التقدمي والذي ما ان تسلم الحكم حتى صاغ مخططاً اصلاحياً سارعت شركة "يونايتد فرويت" الاميركية الشمالية المسيطرة على الاقتصاد الكوبي الى رفضه بذريعة انه "تقدمي اكثر مما يجب". ومن هنا كانت اهمية موقف الرئيس روزفلت، الذي وضع حداً لهذا التدخل العسكري الاميركي السافر، ورسم آفاقاً جديدة للعلاقات بين واشنطن وجيرانها الجنوبيات. مع العلم ان هذا كله سوف يتبخر مع رحيل روزفلت بعد ذلك. الصورة فرانكلن روزفلت: علاقات حسن جوار.