أدى الزلزال المدمر الذي أصاب تركيا إلى بروز ظاهرة داخل المجتمع التركي لم تشهد البلاد لها مثيلاً لا من حيث القوة ولا العمق في انتقاد الدولة التركية وسياستها ومسؤوليتها. وعبرت عن ذلك صحيفة "زمان" ذات الاتجاه الإسلامي بالقول: "الزلزال يدمر المحرمات". فمن جهة، تحول الاعجاب بالدولة وقوتها إلى انتقاد مستمر ومتصاعد لدى المواطنين ووسائل الإعلام لتقصيرها. ومن جهة أخرى، بادرت إلى تقديم المساعدات دول مجاورة معروفة بنزاعاتها مع أنقرة، فكشفت عن تعاطف أخوي بعدما كانت تصور كخطر يهدد أمن ومصالح البلاد. وعلقت "زمان" على ذلك بالقول: "إذن للأتراك أصدقاء آخرون إلى جانب الأتراك"، فيما صدرت "حرييت" الليبرالية بعنوان رئيسي: "شكراً للعالم". وكان الرئيس سليمان ديميريل أكد في أول تصريح بعد الكارثة أن "الدولة قوية"، لكن الأتراك سرعان ما اكتشفوا عيوبها بعد تأخرها في التحرك لمساعدة المنكوبين وبعد الفوضى وغياب التنسيق بين أجهزتها، فراحوا يتساءلون: "أين الدولة". الصحافي فهمي كورو كتب عن تاريخه المهني الطويل في انتقاد المبالغة في دور الدولة، لكنه الآن "مصاب بالصدمة لرؤية مدى عدم كفاءة أجهزتها وعجزها وإرباكها وثقلها". ف"الدولة القوية"، بدت بطيئة الحركة وتعيق عمليات الإنقاذ، ولم يتردد صحافييون في انتقاد تعطيل موكب الرئيس لتلك العمليات ساعات عدة أثناء زيارة موكبه للمناطق المنكوبة. ولم توفر الانتقادات أحداً في مؤسسات النظام، بدأ بمركز رصد الزلازل الذي فشل في تحديد قوة الهزة بشكل دقيق، إذ قدره في البداية ب4.6 درجات حسب مقياس ريختر، ثم عاد ليصحح ذلك إلى 4.7، بناء على معلومات أميركية، وصولاً إلى عدم كفاءة حكام المناطق ورؤساء البلديات وحتى الوزارات ودائرة الشؤون الدينية والجيش. وزير الصحة عثمان دورموس، والمنتمي إلى الحركة القومية المتطرفة الذي قال الأحد الماضي إن لا حاجة للمساعدات الأجنبية ولا للدم اليوناني، رد عليه المواطنون والصحافة بعنف وطالبوه بأن "يخرس" ويستقيل. وعددت الصحف أسماء الدول المساعدة من كافة أنحاء العالم، ومدى التعاطف الذي أظهرته دول العالم، خصوصاً الدول المجاورة التي كان الأتراك يوحى إليهم بخلافاتها العميقة مع أنقرة، مثل اليونان وسورية وإيران، يعارض بشكل غير مباشر السياسة التي تصور تركيا محاطة بمعسكر من الدول المتآمرة بهدف إضعافها وتقسيمها. والتيار القومي المتطرف يرتكز في شعبيته على عزلة تركيا في محيطها وعلى إحباط العلاقة مع أوروبا، ما يفسر انزعاج دورموس من المساعدات الخارجية والاهتمام الذي أظهره العالم بالمأساة التركية. والخلافات بين تركيا والدول المجاورة لن تزول بين ليلة وضحاها، لكن الكارثة قربت بين الجيران، وأحدثت شقوقاً في جدار سياسة الشك والعداء والعزلة. فتعرف المجتمع التركي، مع الزلزال، على تعاطف وصداقة الشعوب المجاورة، الأمر الذي لم تتيحه ظروف الماضي. إلا أن الأهم من ذلك اكتشافه لأزمة الدولة ومؤسساتها التي فشلت في مواجهة الامتحان ولم تُجد قوتها ومركزيتها وأسبقيتها على المجتمع في معالجة الظروف المأسوية الطارئة. وقال رئيس الوزراء التركي بولند أجاويد بأن "لدينا القدرة على تجاوز خسائر الزلزال قريباً، لكن نحتاح إلى الثقة بقوة أمتنا ودولتنا"، فصرخ ضحايا الزلزال: "أين هي الدولة، لقد تركنا نواجه مصيرنا لوحدنا؟". أما باقي المواطنين الأتراك والذين أرادوا المساعدة، فلم يجدوا الوسيلة ولا السلطة ولا التنظيم ولا من يمكن أن ينسق جهودهم وطاقاتهم. ويسأل كثيرون: أين هو المجتمع المدني وأين المتطوعون ولماذا لا توجد لدينا كلاب مدربة وفرق إنقاذ، وتركيا بلد معرض بمعظمه للزلازل؟ وعلى أي حال، فإن كارثة الزلزال هزت المجتمع والدولة في تركيا. وكثير من المتفائلين يؤيدون ما عبرت عنه صحيفة "راديكال" بقولها: "لا شيء سيبقى على حاله بعد اليوم. ويبدو أن هذه الريح ستزداد قوة حتى تتطيح المتمسكين بكراسيهم في السلطة".