لا يدع اللبنانيون فرصة «جبرانية» تمر من غير أن يحتفلوا فيها ب «أديبهم» الملهم الذي بلغت شهرته أقاصي العالم. هذا أديبهم حقاً الذي يجمعون عليه مهما اختلفوا في شؤون السياسة والدين. وقد ظلّ جبران خارج تخوم الحرب الأهلية التي جرفت كل شيء. وعجز بعض الأطراف عن زجه فيها انطلاقاً من هويته الطائفية، فهو كان واضحاً جداً في الفصل بين لبنانه ولبنان الآخرين الذين هم مواطنوه في البلاد الأم، وقد هالته الأمراض التي تفتك بهم وفي مقدمها الطائفية. وكان جبران واضحاً أيضاً في الفصل بين مسيحه ومسيح لبنان، بين «ابن الإنسان» الذي نظر اليه نظرة صوفية والمسيح كما نظر اليه المسيحيون في لبنان ولا سيما الكنيسة. إلا أنّ جبران لم يستطع أن ينجو من شراك «اللبننة» التي نادى بها بعض غلاة الفكرة اللبنانية، فإذا به يصبح في نظرهم واحداً من روّاد هذه الفكرة، وبطلاً من أبطال الأسطورة التي صنعت لبنان. بل ان بعضاً من أهله غير الأقرباء، أصروا على إعادته الى حضن قرية «بشرّي» التي هجرها يافعاً، وعلى إسباغ الصفة المحلية أو الريفية عليه، ونصّبوا أنفسهم قيّمين على اسمه وتراثه، وكأن جبران لم يغادر قريته التي أحَب فيها، أكثر ما أحب، طبيعتها، شمسها وثلجها والأصالة التي تميّز بها أهلها في مطلع القرن المنصرم. لم يكن جبران قروياً ولا «بشرّاوياً» تحديداً، ولو قيض له أن يولد في قرية أخرى لما احتج أو اعترض. ففكره أوسع من أن يحصر في بقعة جغرافية أو تراث طائفي أو عشيرة لبنانية. وروحه أرحب من أن يحدّها لبنان، هو الذي كان يعدّ نفسه كائناً من هذا العالم وما وراء العالم. ولم يتهيّأ له يوماً أنه يخاطب فقط أهل قريته أو أهل لبنان، بل كان يطمح الى مخاطبة شعوب العالم، وهذا ما فعله. قد يستحق جبران أن يكون «أيقونة» لبنان، ولكن لبنانه هو، الوطن المثالي الذي لم يبق قائماً. وقد يحقّ أيضاً للبنانيين أن يجعلوا منه رمزاً لفكرة لبنان التي لم تلبث أن سقطت على عتبة الحرب الأهلية. ولكن لا أعلم إن كان هؤلاء يدركون جيداً أن جبران إذا عاد اليوم لتراجع عن جملته الشهيرة التي تحوّلت شعاراً وطنياً وسياحياً والتي تقول: «لو لم يكن لبنان وطني لاتخذت لبنان وطني». حتماً لو عاد جبران اليوم لما تردّد عن القول: «لو لم يكن لبنان وطني لما اتخذت لبنان وطني». في العام الماضي الذي سمّاه اللبنانيون عام جبران بلا مناسبة تذكر، لم ينتشر من أقوال جبران سوى هذا القول الذي ردّدته الشاشات الصغيرة والإذاعات... كأن جبران يُختصر في هذه الجملة أو كأنّ فكره مقصور عليها. كأن جبران أصبح صورة أخرى للشاعر سعيد عقل في أذهان هؤلاء اللبنانيين وما أكثرهم، وبات شخص «المصطفى» في كتاب «النبي» ظلاً لشخص «قدموس»... بل ان جبران ما كان ليكون ما هو عليه في نظر هؤلاء، لو لم يكن سليل الأرز وأرض البخور واللبان. انها «اللبننة» التي كان سعيد عقل أحد دعاتها الكبار، تجرف قامة في حجم جبران، هذا الذي كان لبنانياً بمقدار ما كان عربياً وعالمياً أو كونياً. ولا أحد يمكنه تناسي العلاقة الوطيدة التي جمعت بين جبران واللغة العربية التي كان واحداً من روادها المحدثين والتي لم يؤثر الإنكليزية عليها، على رغم اعتناقه اياها لغة يطل بها على العالم. ولا يمكن أيضاً تناسي الخلاف الذي نشب جبران والاكليروس وكاد ينتهي الى حال من القطيعة. جبران خليل جبران ليس سعيد عقل ولا يمكنه أن يكون بطلاً قومياً لبنانياً، وفي كل ما كتب لم يلتمع سيف، مثلما التمعت السيوف في شعر صاحب «قدموس». لبنان جبران هو لبنان الروح، الروح الشرقية التي صنعتها الأديان والرؤى والأحلام. لبنانه لبنان متوهّم أوجده بخياله ليكون مثالاً لفردوس يعد الإنسان نفسه به. أما لبنان سعيد عقل فكان لبنان العظمة، لبنان القوّة، لبنان السؤدد الذي لم يكن يوماً ولن يكون من شدّة طابعه الخرافي. لم يكتب سعيد عقل عن جبران إلا مرة واحدة، وبدت مقالته من قبيل رفع العتب، ولم ينشرها في أي من كتبه، وقد أسبغ فيها على جبران عظمته اللبنانية. لم يحبّ سعيد جبراناً ولم يعترف به شاعراً كبيراً ومفكراً كبيراً. انه بعيد عنه كلّ البعد وقد لا يكون قادراً على استيعاب نزعته الصوفية أو العرفانية المغرقة في الروحانية. بل انه على خلاف جوهري معه، ومع أدبه الرؤيوي أو «النبوءاتي» والمأسوي، هو المفرط في الشكلانية والصنعة والصقل الجزيل، وفي التفاؤل والفرح. لم يكن سعيد عقل قادراً يوماً على أن يتصالح مع جبران. صالح كلّ الشعراء الرومنطيقيين الذين عاداهم في فترة من حياته. حتى الياس أبو شبكة، غريمه اللدود، صالحه أو تصالح معه، متنازلاً عن عرشه كما عبّر مرّة. أما جبران، فلا. جبران غريمه الأبدي، غريمه الذي سرق منه مجد العالم الذي كان مكتوباً له. أضحى سعيد عقل شاعر الجغرافيا اللبنانية والتاريخ اللبناني، حتى وان كانت لغته العربية بديعة وشديدة الأصالة. سخر سعيد عقل مرة من جبران آخذاً عليه قوله الشهير «الغناء سرّ الوجود» في قصيدة «المواكب» التي يكرهها سعيد ويعدّها غاية في الركاكة، وخاطب صاحب «الأرواح المتمرّد» على الشاشة الصغيرة قائلاً: «ولووو... يا جبران، الغناء سرّ الوجود؟». وقد فات سعيد عقل أن السرّ الذي يقصده جبران هو السرّ «الاورفي» المستوحى من أسطورة أورفيوس الإغريقي، الشاعر والمغني الذي سحر آلهة اليونان القديمة بما عزف وما غنى من أشعار، فسمحت له بزيارة حبيبته في العالم الآخر. وهذا السرّ «الأورفي» اعتمده كثيراً الشعراء الرمزيون في فرنسا وفي مقدّمهم بول فاليري الذي يدّعي سعيد عقل انه شبيهه. طبعاً لا تمكن المقارنة بين جبران وسعيد عقل، ولا بين لبنان الأول ولبنان الثاني. جبران هو الأيقونة اللبنانية التي شعت في العالم وسعيد عقل هو السيف اللبناني اللامع وإن لم تكن المعارك إلا معارك «طواحين الهواء».