شهدت الحدود الهندية - الباكستانية في ولاية كشمير المتنازع عليها تبادلاً عنيفاً للقصف المدفعي، هو الأعنف، منذ دخلت الدولتان بشكل رسمي نادي الدول النووية العام الماضي. واعتبرت هذه المواجهات المسلحة أول احتكاك عسكري مباشر بين دولتين تملكان قنابل نووية. وما يزيد من خطورة الوضع أن البلدين خاضا سابقاً ثلاث حروب في القرن الجاري وتحكمهما الآن اتجاهات متطرفة تلجأ إلى تأجيج المشاعر الوطنية في نفوس المواطنين كوسيلة للرفع من رصيدها في السلطة ولهو الشعب عن مشاكل البلدين وتردي أوضاعهما الاقتصادية واستشراء الفساد في الدوائر العامة. وهذا يجعل الأمور أكثر تعقيداً على زعماء البلدين، إذ لا يمكنهم قبول الحلول السياسية التي لا ترضي التيارات الوطنية. انفجرت أزمة كشمير الأخيرة خلال آخر مراحل الحملة الجوية التي شنها حلف شمال الأطلسي ضد يوغوسلافيا. وهاجمت القوات البرية والجوية الهندية مجموعات من المقاتلين الإسلاميين الكشميريين المدعومين من باكستان، واستطاعت القوات الهندية إحكام سيطرتها على مرتفعات استراتيجية على جانبها من الحدود في ولاية كشمير بعد معارك مع بضع مئات من المقاتلين بعد أن أمنت بطاريات المدفعية الباكستانية غطاء نارياً كثيفاً لهم. وتدخلت وسائط الدفاع الجوي الباكستاني واسقطت طائرتين هنديتين طراز ميغ -21، ولكن بعد فشل المساعي الديبلوماسية والمحادثات المباشرة بين الهندوباكستان، وافق رئيس ووزراء باكستان نواز شريف على إعادة إحياء خط وقف اطلاق النار في كشمير وإبقاء الوضع على ما كان عليه داخل الولاية. وكان استنتاج غالبية المراقبين أن إسلام اباد لم تنجح في تدويل كشمير وفرض حل جديد لوضع الولاية، بعد أن فشلت في تأمين الدعم المطلوب لأهدافها من الصينوواشنطن. ويعتقد المحللون أن شريف حاول تحويل مشكلة كشمير إلى أزمة شبيهة بأزمة كوسوفو، والاستفادة من احتقان مشاعر الرأي العام الدولي في حينه ضد يوغوسلافيا لسوء معاملتها لألبان كوسوفو. فوضع كشمير مشابه إلى حد ما، إذ أن الغالبية المسلمة لسكان كشمير تطالب بالاستقلال عن الهند. كما أن الحكومة الهندية متهمة من قبل المنظمات الدولية بارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان داخل كشمير. ويعتقد المراقبون بأن باكستان أرادت استغلال استياء حليفتها الاستراتيجية، الصين، من قصف الأطلسي لسفارتها في بلغراد، لذلك حركت الوضع في كشمير آملة بأن تتحرك بكين عسكرياً أو سياسياً لدعمها. ويبدو ان الصين آثرت البقاء على الحياد، كما ان المجتمع الدولي لم يظهر أي حماسة لفرض تغيير، خصوصاً بعد أن دعمت واشنطن الموقف الهندي، مما دفع بنواز شريف للموافقة على مطالب الولاياتالمتحدة وابقاء الوضع على حاله داخل كشمير. إلا أن هذا لا يعني نهاية الأزمة بين البلدين، خصوصاً أن موقف شريف السياسي ضعف نتيجة المواجهة الأخيرة. ميزان القوى تتفوق الهند على باكستان عدة وعديداً. وحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، تملك الهند جيشاً من مليون جندي نظامي مزود بحوالى 3500 دبابة وحوالى 4200 قطعة مدفعية وصواريخ أرض - أرض باليستية وتكتيكية متنوعة. وتملك اسطولاً بحرياً كبيراً يضم 19 غواصة وحاملة طائرات وسبع مدمرات وعشرات الفرقاطات والزوارق الصاروخية وكاسحات الألغام وغيرها من سفن الإنزال والدعم. أما سلاح الجو الهندي فيضم حوالى 800 طائرة مقاتلة وقاذفة بالإضافة إلى العشرات من طائرات الهليكوبتر الهجومية والمتعددة المهمات. في حين يبلغ تعداد الجيش النظامي الباكستاني أكثر من نصف مليون جندي مزودين بحوالى 2120 دبابة وأكثر من ألفي قطعة مدفعية وعدد كبير من الصواريخ الباليستية والتكتيكية المتنوعة. وتملك باكستان اسطولاً بحرياً قوياً يضم تسع غواصات ومدمرتين وثماني فرقاطات وأكثر من عشرين سفينة متنوعة من زوارق صاروخية وكاسحات الغام ودعم. ويتألف سلاح الجو من 420 طائرة قاذفة ومقاتلة، بالإضافة إلى أسراب من طائرات الهليكوبتر الهجومية والمتعددة المهمات. وعلى رغم ان البلدين يملكان أعداداً كبيرة من الأسلحة، إلا أن غالبية هذه الأسلحة من الجيل القديم لا تدخل في خانة الأسلحة الذكية الحديثة التي شهدناها في حملة حلف شمال الأطلسي على يوغوسلافيا. ففي حين تضم غالبية الترسانة الهندية أسلحة روسية تعود في معظمها إلى السبعينات، تتكون غالبية الترسانة الباكستانية من أسلحة صينية والتي هي بدورها نسخ مطورة عن أسلحة روسية قديمة. وأهم ما تملكه الهند من أسلحة هو دبابات "تي -72" وطائرات "الميغ -29" و"سوخوي -30" و"ميراج -2000" الفرنسية. أما أهم ما تملكه باكستان من أسلحة، فهي دبابات "تايب -85" الصينية والمشابهة لدبابات "تي -72" الروسية، ومقاتلات "اف -16" الأميركية. وسباق التسلح بين البلدين طور بدوره قطاع الصناعة العسكرية فيهما، وكلاهما يقومان بتصنيع ذخائر متنوعة وآليات للنقل وصواريخ تكتيكية وباليستية بالإضافة إلى أسلحة الدمار الشامل مثل رؤوس كيماوية وبيولوجية ونووية. العمق الاستراتيجي أظهرت آخر حربين بين البلدين ان الهند، على رغم تفوقها العسكري، لا تملك نفساً طويلاً على أرض المعركة. ويقول المحللان الاستراتيجيان جيفري كيمب وروبرت هيركافي إن القوات الهندية غير معدة لحروب طويلة الأمد، إذ أن الهند، وباكستان أيضاً، تتكلان على التدخل الديبلوماسي الدولي لايقاف المعارك بينهما. ويلعب العمق الاستراتيجي دوراً أساسياً في الحرب لصالح الهند، إذ ان معظم المدن الباكستانية الرئيسية تقع على مسافة قريبة من الحدود، ما يضعها وطرق المواصلات تحت مرمى نيران الصواريخ والقاذفات الهندية. فمدينة لاهور تبعد عشرين ميلاً عن الحدود، في حين تبعد العاصمة إسلام آباد خمسين ميلاً. أما المدن الهندية فتقع في وسط البلاد، إذ تبعد العاصمة نيودلهي 200 ميل عن الخدود وبومباي 400 ميل. وفي حال نشوب حرب بالصواريخ الباليستية، سيكون باستطاعة الصواريخ الهندية تغطية كل الأراضي الباكستانية، في حين ستعجز الصواريخ الباكستانية الحالية عن إصابة أهداف في أقصى جنوب شرقي الهند، لذلك تستطيع الهند نصب منصات اطلاق صواريخها خارج مرمى الصواريخ الباكستانية، وهو أمر تسعى إسلام آباد جاهدة لحسمه عبر تطوير صاروخ "شاهين" حتى يستطيع تغطية الأراضي الهندية كلها. إلا أن عامل العمق الاستراتيجي لم يمكن الهند من شن هجوم ناجح ضد باكستان، إذ تمكنت القوات الباكستانية من استغلال الحواجز الطبيعية من جبال وأنهر وصحارى على طول الحدود بينهما لانشاء خطوط دفاع متينة. واعتمد البلدان في حروبهما السابقة استراتيجية الدفاع الثابت، ولم تشهد الجبهات سوى هجمات محدودة استهدفت السيطرة على تلال استراتيجية. ويفيد المراقبون ان قيادتي البلدين تقومان منذ حرب الخليج الأخيرة بإعادة تقويم شاملة لقواتهما المسلحة. وحصلت الهند على تكنولوجيا متطورة ستساعدها في الحرب الالكترونية ضد باكستان، خصوصاً في مجال التشويش على أجهزة الاتصال. كما أن الهند اطلقت أقماراً اصطناعية للتجسس، مما سيمكنها من الحصول على معلومات عن مراكز الجيش الباكستاني وتحركاته، لكن الأقمار الهندية لا تستطيع ايصال المعلومات بسرعة كبيرة تمكن القوات الهندية من مباغتة الجيش الباكستاني. ويتوقع الخبراء أن تطلب باكستان من حليفها الاستراتيجي، الصين، تزويدها بصور من أقماره الاصطناعية لتحركات الجيش الهندي في حال اتساع نطاق المواجهة العسكرية بينهما. التقارب الهندي - الأميركي إن أهم ما يمكن الخروج به من استنتاجات أو ملاحظات من هذه المواجهة المحدودة هو تبني واشنطن للموقف الهندي مما زاد من التقارب بين الدولتين. ولهذا التقارب دلائل استراتيجية أهمها سحب الهند من الكنف الروسي إلى الاحتواء الأميركي. فالهند كانت الحليف الاستراتيجي الأهم لروسيا في جنوب آسيا، وها هي اليوم تنضم تدريجياً إلى مجموعة الدول التي استدرجت في الأعوام القليلة الماضية إلى المعسكر الغربي. كما ان واشنطن ستستفيد من وضع الهند كقوة بشرية ونووية نامية للوقوف أمام الخطر الصيني. إن قيام الصين ببناء اسطول بحري للمياه العميقة، المحيطات، له مدلولات استراتيجية توسعية حسب تقديرات العديد من المحللين الغربيين. هذا بالاضافة إلى فضيحة سرقة الصين لتكنولوجيا الصواريخ العابرة الأميركية ورؤوسها النووية المصغرة، مما زاد من حجم خطر الصين الاستراتيجي وخشية المسؤولين الأميركيين من مطامع بكين في منابع الطاقة في جنوب شرقي آسيا ومنطقة الخليج. لذلك فليس من المستبعد ان تسعى واشنطن لجعل الهند القوة الاقليمية الرئيسية في المنطقة لمواجهة التمدد الصيني. لكن هذا التقارب الأميركي - الهندي سيقلق باكستان التي تسعى بدورها لدور اقليمي وتعمل على التقرب من الغرب للحصول على مساعدات اقتصادية لا تستطيع الصين تأمينها. ويشار إلى أن إسرائيل تعتبر باكستان، كونها دولة مسلمة تقتني سلاحاً نووياً، خطراً استراتيجياً يهدد أمنها. وقد شملت العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي التي وضعت العام الماضي اسم باكستان ضمن الدول التي تشكل تهديداً استراتيجياً مباشراً لها. ولذلك يشن اللوبي الصهيوني في واشنطن منذ فترة حملة قوية ضد باكستان، كما يعمل في الوقت ذاته على التقريب ما بين إسرائيل وأميركا من جهة، والهند من جهة أخرى. وقد وقعت اتفاقات استراتيجية وأمنية بين تل أبيب ونيودلهي، إلا أن الخطر الرئيسي يبقى من الأسلحة النووية، إذ أنه لا يوجد ما يضمن عدم خروج أي مواجهة محدودة بين الهندوباكستان عن السيطرة واتساعها لحرب شاملة تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل.