كان لي حظ المشاركة في أعمال المؤتمر الدولي الأول عن "الأخلاقيات الثقافية والتنمية" الذي عُقد في ها÷انا عاصمة كوبا من 4 إلى 11 حزيران يونيو الماضي. وأتيحت لي فرصة التعرف على كثير من جوانب مشكلات التخلف والتنمية في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي من منظورات جديدة ومواقف لها طابعها الخاص الناجمة عن الظروف البيئية والاقتصادية والسياسية السائدة في المنطقة، والناشئة أيضاً عن تجاور المجتمع الأميركي الشمالي الذي بلغ ذروة التقدم، خصوصاً في المجال التكنولوجي، ومجتمعات أميركا اللاتينية التي تعتبر صورة حية لتخلف العالم الثالث، والتي تخنقها الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مع اختلاف وتفاوت حدة هذه الأزمات من مجتمع الى آخر. وإن كانت كلها تتفق في بذل جهود مستميتة للتخلص من عوامل التخلف والوعي بضرورة العمل على تطوير وتنمية مواردها الاقتصادية والبشرية حتى نستطيع الاستمرار في الوجود والبقاء في عالم تتسارع فيه قوى التقدم والارتقاء في المجالات كافة. ولكن، ربما كان الأهم من ذلك أنه اتيحت لي فرصة الاتصال عن قرب بكثير من جوانب الحياة الثقافية في المنطقة، والتعرف على المؤثرات التي توجه ثقافات شعوبها والقيم الاخلاقية والسياسية التي تتحكم فيها بما يصبغ تلك الثقافات بصبغة خاصة متميزة تقوم على التحدي والاعتزاز بالذات وبالتراث الاسباني القديم والأصيل، كما تفتح كثيراً من المجالات الخليقة بالدراسة والمتابعة، ومحاولة الافادة منها في توجيه ثقافات العالم الثالث التي تحاول كسر احتكار الثقافة الغربية التي يغلب عليها التأثير الاميركي وهيمنتها على المناخ الثقافي في العالم. وهنا تظهر أهمية، بل ربما ضرورة احتكاك الثقافة العربية بثقافات أميركا اللاتينية وغيرها من الثقافات اللا غربية، كوسيلة لإثراء الفكر العربي من خلال دراسة تجارب الآخرين التي تساعد على تحقيق التنوع الثقافي داخل الإطار الثقافي العربي الإسلامي الشامل، يعزز هذه الدعوة التداخل القومي القديم الذي استمر ثمانية قرون بين الفكر العربي الإسلامي والفكر الأسباني في الأندلس الذي انتج مفكرين وأدباء أسبان أندلسيين أسهموا اسهاماً غزيراً ورفيعاً في كثير من مجالات الثقافة العربية. بل إن الروح العربية الإسلامية التي لا يزال بعض اثارها يحلق في الجو العام في بعض بلاد الأندلس، أثرت في أعمال عدد من الأدباء والشعراء المحدثين والمعاصرين في أسبانيا، كما هو الحال بالنسبة الى الشاعر لوركا. وفترت هذه العلاقات بطبيعة الحال بمرور الزمن منذ خروج العرب من الأندلس، ولا تكاد تطفو على السطح من جديد إلا في بعض المناسبات المتباعدة التي تحاول على استحياء التذكير بذلك الماضي، كأن يدعو المعهد المصري في مدريد الى إحياء ذكرى طه حسين، فيشارك أدباء ومفكرون أسبان في المناسبة، أو أن يدعو المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة الى إحياء ذكرى لوركا، فيشارك لفيف من الأدباء والشعراء الأسبان والعرب. ولكن في ما عدا ذلك، فإن الثقافة الاسبانية تقع على هامش اهتمامات المثقفين في العالم العربي، باستثناء المتخصصين منهم، وهو ما ينبغي تداركه. على الجانب الآخر عرفت اميركا اللاتينية عدداً من الادباء والشعراء المبدعين العرب الذين هاجروا إلىها وأقاموا فيها، وإن ظلت تربطهم بأوطانهم روابط قوية من العاطفة والحنين والولاء، انعكست في أعمالهم التي تعتبر امتداداً للثقافة العربية في العالم الجديد. وكان هؤلاء المبدعون المهاجرون يؤلفون بشكل أو بآخر همزة وصل بين الثقافتين العربية واللاتينية ذات الأصول الاسبانية غالباًَ، كما كانت أعمالهم شائعة في الأوساط الثقافية العربية الى وقت غير بعيد. وتراجعت هذه الثقافة المهجرية بعد أن اغفلت الأجيال التالية اللغة العربية بحكم الواقع الذي يعيشون فيه وظهرت إبداعاتهم بالاسبانية أو البرتغالية، وكادت الصلات الثقافية بينهم وبين العالم العربي تتقطع، وهذه خسارة فادحة بالنسبة الى الثقافة العربية يجب أن تواجه ببذل الجهود لنقل إبداعاتهم الأدبية والفكرية الى العربية عن طريق الترجمة ما دام يصعب جعلهم هم أنفسهم يستخدمون اللغة العربية في انتاجهم الثقافي. كما يجب العمل على مد جسور التبادل الثقافي والاجتماعي معهم حتى يرتبطوا واقعياً، وليس عاطفياً أو رومانسياً فقط، بأوطان آبائهم وأجدادهم، وحتى يمكن دراسة وفهم الاتجاهات الفكرية العامة التي توجه أعمالهم الابداعية والافادة منها في توسيع نطاق الاتجاهات الثقافية العربية، إن كان هناك ما يدعو الى ذلك. وتؤلف مجتمعات أميركا اللاتينية تجمعاً بشرياً ضخماً يقوم على أساس وحدة اللغة، حيث تسود اللغة الاسبانية التي تتضاءل أمامها، من حيث التأثير الثقافي اللغات الأخرى الموجودة هناك بما في ذلك اللغة البرتغالية. والوضع في أميركا اللاتينية يثير من هذه الناحية الوضع في الوطن العربي الذي يكتسب وحدته الثقافية، رغم التنوعات الفرعية، من اللغة العربية التي هي أساس وحدة التفكير. فوحدة اللغة في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي تجعل منهما قوة ثقافية هائلة ومؤثرة يصعب تجاوزها أو إغفالها في أية محاولة جادة لتنويع مصادر التأثير الثقافي الخارجي وتعدد مجالات التفاعل مع الثقافات الأخرى، خصوصاً إذا كان الهدف من ذلك هو كسر حدة هيمنة الثقافة الغربية. يزيد من قوة ثقافات اميركا اللاتينية أنها ثقافات مواجهة على الصعيدين الخارجي والداخلي. فدول اميركا اللاتينية تؤلف بحكم الجوار خط المواجهة الأول ضد زحف ثقافة اميركا الشمالية التي تساندها أجهزة إعلامية، ووسائل اتصال رهيبة تعمل على نشر الفكر الاميركي وتوصيله بمختلف الوسائل والاساليب، ولذا تقف الثقافة اللاتينية - عموماً - موقف الحذر الشديد الذي يقوم على الدراسة الواعية الناقدة لتيارات واتجاهات الفكر الاميركي الشمالي والأخذ منها بما يساعد على تطويرها هي ذاتها وتقويتها والمحافظة على مقوماتها الخاصة. وتواجه الثقافة اللاتينية في كل مجالاتها وأنشطتها الفكرية والادبية والفنية الاوضاع المتردية التي يعاني منها الناس في مختلف دول المنطقة، ولذا تشغل المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجانب الأكبر من النشاط الثقافي الذي يعبر عن التجربة الذاتية التي عاشها هؤلاء المفكرون والمبدعون، وهم يشاركون شعوبهم مرارة العيش وقسوة النظم السياسية التي كانت تتحكم فيهم. وتمتلئ كتابات الادباء والشعراء والمفكرين، بل وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا بمظاهر الحياة في مجتمعات يسودها الفقر والظلم السياسي والاجتماعي وامتهان حقوق الإنسان، بل إن بعض هؤلاء الكتاب والشعراء والمبدعين شارك مشاركة فعلية في الاحداث السياسية والحركات الثورية وحروب التحرير. فشاعر شيلي العظيم بابلو نيرودا، على سبيل المثال، عمل في السلك الديبلوماسي لكي تتاح له فرصة السفر واكتساب خبرات اجتماعية وسياسية من شعوب وثقافات العالم يمكن أن ينقلها الى وطنه، كما لعب دوراً مهماً في حياة وفكر وسياسة صديقه الرئيس الليندي. وشاعر كوبا العظيم في القرن الماضي خوسيه مارتي، الذي لا يكاد يكون معروفاًَ في العالم العربي رغم أنه يحتل مكانة مرموقة تقترب من التقديس كان يحمل في رأسه دائماً هموم مجتمعه الفقير، خصوصاً هموم العبيد السود في مجتمع فرض عليه الأسبان المستعمرون نظاماً طبقياً صارماً كان من نتيجته فرض البؤس والشقاء على الغالبية العظمى من أفراد الشعب الذين وجد مارتي أن "قضاءه وقدره يفرضان عليه الالتحام بالمعذبين في الأرض"، كما يقول هو نفسه في إحدى قصائده الأخيرة. ولذلك شارك مشاركة فعلية في الثورة على النظام الاستبدادي وتحمل النفي من كوبا والتشرد في اميركا وأوروبا مرات عدة، ثم عاد ليشارك في حرب تحرير كوبا ويقتل في الأيام الأولى من تلك الحرب. والامثلة كثيرة، وكلها تشير الى مشاركة هؤلاء المبدعين في تجربة الحياة اليومية المريرة وأن أعمالهم الإبداعية هي انعكاس وتعبير عن تلك التجربة الذاتية. وفي عالمنا العربي أمثلة كثيرة جداً مشابهة وهي علامات مضيئة في تاريخ الثقافة العربية. وهذا كله يدعو الى ضرورة التعرف على ثقافات اميركا اللاتينية والدور الذي قامت وتقوم به لرفع المعاناة عن شعوبها الى جانب تسجيلها لمختلف صور تلك المعاناة، ولقد عرفت الأوساط الثقافية بعض المبدعين من اميركا اللاتينية من خلال ترجمة بعض أعمالهم الى اللغة العربية، خصوصاً أعمال الأدباء والشعراء الذين فازوا بجائزة نوبل، ولكن هذا لا يعني أن هناك تواصلاً حقيقياً ومؤثراً وفاعلاً بين الثقافتين العربية واللاتينية. ولن يتحقق مثل هذا التواصل إلا عن طريق الترجمة المتبادلة بين اللغتين وعن طريق الدراسة المتعمقة للأعمال الكبرى في ضوء الأحداث الاجتماعية والسياسية التي أفرزت هذه الأعمال. ورغم ما قد يمكن للجهود الفردية أن تقوم به في هذا الصدد، فإن الأمر يدعو الى تضافر جهود الجامعات ووزارات الثقافة في البلاد العربية، بل وقد يتطلب اهتمام المنظمة العربية للترجمة والثقافة والعلوم. فالأمر يتعلق في نهاية المطاف بإثراء الثقافة العربية وانفتاحها على مصادر ثقافية غير غربية، ولكنها تملك العمق والثراء والتنوع، كما تتميز بالقدرة على التحدي والتصدي. وليس الصدّ. كما أنه يتعلق بالتعريف بالثقافة العربية بين الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين العرب الأوائل والعمل على إيجاد صلة ثقافية قوية بينهم وبين الثقافة العربية وأوطان الآباء والأجداد والإفادة في الوقت ذاته من جهودهم وإبداعاتهم وفكرهم في فتح مجالات جديدة للإبداع الفكري والأدبي والفني في الوطن العربي. وليس هذا كله بالأمر الهين ولكنه يستحق المحاولة والإقدام. * انثروبولوجي صري.