احتفلت كوبا وأميركا اللاتينية قبل عامين بمرور الذكرى المئوية الأولى على استشهاد الكاتب والشاعر والمفكر الكوبي خوسيه مارتي الأب الروحي والمحرك الفكري للثورة المعاصرة في أميركا اللاتينية، وامتداد روح سيمون بوليفار التحررية في تلك القارة، ومبدع الثورة الكوبية منذ جذورها الأولى الى انتصارها بقيادة فيدل كاسترو… وهي الثورة التي حاكت من حوله الأساطير التي سمت به لتجعله أباً للوطن وملهماً له، باعتباره أول ثائر من اجل استقلال شعوب اميركا اللاتينية عن اسبانيا. وتشهد الحياة الثقافية الاسبانية هذه الأيام احتفالاً بتلك الذكرى على شكل آخر، فقد صدرت الأعمال الكاملة لذلك الكاتب والمفكر، وجديدها "اليوميات" التي كانت سجلاً حياً لحياة كاتب عاش من منفى الى آخر حتى اليوم الأخير السابق لمصرعه بالشكل "الرومانتيكي" الذي وقع خلال معركة بين الثوار وفرقة من الجيش الاسباني المحتل في كوبا. وتشير الشهادات الحية التي تم نقلها من أرض المعركة الى ان الكاتب كان أثناء القتال في مأمن من الموت، وكان قادة الثوار يحاولون الحفاظ على حياته أكثر من حفاظهم على حياتهم، وذلك وعياً منهم بالقيمة الروحية التي كان يبثها وجوده بين المقاتلين. لكنه انطلق فجأة تجاه العدو من دون ان ينبه الحارس الذي كان يرافقه كظله. موقناً ان جسده معرض لرصاص العدو، وان الموت هو الشيء الوحيد المحقق في هذه المغامرة، وكأنه بذلك يضع المثال الثوري الرومانتيكي الذي قلده بعد ذلك تشي غيفارا في مغامرته التي أودت بحياته، وصنعت اسطورته بعد أكثر من نصف قرن. انتقل خوسيه مارتي الى العالم الآخر تاركاً خلفه ابداعاً ادبياً حافلاً بالكتب الفكرية والقصة والرواية والشعر وأدب الرحلات يفوق عدد سنوات حياته. وقامت الثورة الكوبية بنشرها مرات عدة. لكن "اليوميات" تصدر هذا العام في أول طبعة لها بمناسبة الذكرى المئوية لرحيله. "اليوميات" ليست أفضل ابداع خوسيه مارتي الذي كتب صفحات رائعة عن أبطال الروايات الشعبية في بلاده، وعن تجربته مع مبدعي ذلك العصر الذين تعرف عليهم بشكل شخصي مثل أوسكار وايلد، بل وكتب حتى عن أحدث "موضات الأزياء العالمية" بقلم رشيق يتعامل مع اللون والتشكيل الجسدي للعارضات، ولكن كتاباته لم تكن صحافية بقدر ما كانت نوعاً من النقد التشكيلي. وكتب عن أحدث الألعاب الرياضية التي بدأت تنتشر في أميركا كنوع من المحافظة على الصحة. وكتب عن "الرفق بالحيوان"… وكصحافي لم يترك شيئاً لم يكتب عنه بمقدرة رائعة. كان مارتي ذا نظرة تاريخية واعية حاولت ان تربط نضال بلاده مسقط رأسه - ولد في كوبا لأبويين اسبانيي الأصل - بنضال الشعوب الأخرى التي اقترب منها وتعرف عليها خلال حياته القصيرة التي أمضى معظمها في المنفى. وربما لعبت فترة منفاه وتجواله في العالم كمراسل صحافي لعدد من الصحف والمجلات الأميركية اثراً في تفتح وعيه وصنع عبقريته التي وضعها في خدمة قضايا الوطن والأوطان المضطهدة الأخرى التي كانت تناضل من اجل الخلاص من الاستعمار وتصفية شكله القديم. حاول خوسيه مارتي اختراق الحدود الواقعية والثقافية للتعرف على ثقافات اخرى قد تتشابه أو تتوازى مع ثقافة بلاده، لذلك أمضى معظم أوقات رحلاته في البحث والاطلاع خصوصاً تلك الفترة التي أمضاها في اسبانيا، فاكتشف مبكراً عظمة الآثار العربية التي خلفتها الحضارة الاندلسية الاسلامية خلال القرون الثمانية التي أشرقت فيها الأندلس بنور الحضارة العربية الاسلامية، فكانت المنارة في حين كانت أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى. وكانت تلك الآثار ملهمة له في أعماله الشعرية التي أبدعها خلال تلك السنوات، وله فيها قصائد مشهورة مثل القصائد التي تحمل عناوين: "عبدالله" و"هاجر واللؤلؤة" و"اللؤلؤة العربية". وفي قصيدة طويلة له يبدي الشاعر الكوبي اعجابه بالمرأة العربية: آه، حب امرأة عربية يطفئ الظمأ اللاعج لدون خوان، حب عربي، جبين، مفرق الشر الأسود. احساس بالشوق الأبدي تتحدى إشباعنا بالحب.
حين تقبل امرأة عربية، تقبل شفاه إمرأة، يفي الخلود لنا فيها بأحد وعوده. أو يرى في ملامح تلك المرأة العربية مصير شعبها الذي كان في ذلك الوقت يرزح تحت نير الاستعمار فيقول في قصيدته "أغنية خريفية": العربية الفخورة، أسيرة في انتظار سيدها الفظ، باكية في البرج المقفر. كتاباته الشعرية الأخرى التي تبدو بعيدة عن العرب، لا ينسى فيها تلك الصفات التي كانت ولا زالت لصيقة بالجنس العربي سواء في الأدب أو المشاهدات العربية. ويستخدم تلك الصفات حين يريد امتداح شيء يحبه. فيرى في الراقصة الاسبانية "نظرتها العربية وحاجبيها وطيفها المرسوم بين النقوش الدقيقة على احجار وشرفات قصور الحمراء". يمتد تأثر خوسيه مارتي بكل ما هو عربي الى حياته الخاصة، فقد أطلق على ابنه اسم "اسماعيل" تيمناً باسماعيل بن ابراهيم وهاجر، باعتباره "جد العرق العربي". فنجده يهدي كتابه الشعري الأول الى ابنه ويحدثه عن بلاد العرب حتى تلك التي لم يزرها ولكن روحه تعلقت بها، مثل مصر التي قال عنها انها "البلد الذي ينبغي ان نقوم بالزيارة الترفيهية الأولى نحوه، ابني وأنا". كتب في آذار مارس العام 1881 في جريدة "ذي صن" الصادرة في نيويورك مقالاً حول الفنان الاسباني القطالوني الشهير ماريانو فورتوني تحدث فيه عن لوحاته التي بهرته بشدة الا ان أكثر تلك اللوحات ابداعاً من وجهة نظر مارتي هي التي تعكس حياة عرب شمال افريقيا الريف المغربي والصحراء الغربية التي كانت في ذلك الوقت تعاني من الاستعمار الاسباني. وكان وصف مارتي لما شاهده على اللوحات ذا شفافية خاصة، حيث يصف العرب بأنهم: "المخلوقات الرشيقة اللطيفة التي تشكل الشعب الأكثر نبلاً وأناقة على وجه البسيطة". ان وصف خوسيه مارتي للعرب بتلك الصفات، يعكس احساساً بالارتباط بهؤلاء الذين كانوا يعانون في ذلك الوقت، في اجزاء عدة من بلادهم، من الاستعمار الذي كان يجثم على صدر وطنه كوبا في القرن التاسع عشر. لذلك فإن هذا الكاتب المفكر الذي تشبه أعماله أعمال كتاب المهجر العرب، وبشكل خاص كتابات المفكر اللبناني أمين الريحاني، خصص للعرب وعلاقته الروحية والمادية بهم صفحات كثيرة من أعماله الكاملة التي تم نشرها في ثمانية وعشرين جزءاً. لم تتوقف كتابات الكاتب المناضل والأب الروحي للثورة الكوبية عن متابعة أوضاع العرب والقضايا العربية، فهو أيّد مواقف المناضلين العرب في صراعهم ضد الاستعمار، فكتب خلال الأعوام 1881 و1882 و1889 العديد من المقالات والشهادات الأدبية عن حروب الغزو الأوروبي وصراعات المصالح حول المستعمرات. وتتضمن هذه الصفحات مواضيع عربية، اذ جذبته روحياً الثورة التي اندلعت ضد الاستعمار على امتداد العالم الاسلامي كله، وتابع بشغف الحوارات التي دارت في البرلمانات الأوروبية حول مؤيدي الاستعمار ومؤيدي ثورات التحرر، خصوصاً البرلمان الفرنسي الذي تصاعدت فيه الأصوات ضد القمع الوحشي الذي يواجه به الجيش الفرنسي ثورات التحرر العربية في الجزائر والمغرب وتونس. وهاجم التزييف الأوروبي للتاريخ، فكتب شهادة ادانة للأوروبيين: "بعض الناطقين باللغات اللاتينية يعتقدون بأن لهم الحق الطبيعي في نهب اراضي الأفارقة الناطقين بالعربية". وامتدح ثورة عبدالقادر الجزائري ضد الفرنسيين، وأشاد كذلك بالزعيم الوطني المصري أحمد عرابي الذي قاد ثورة 1881 واعتبره مثالاً للمناضل الذي "يتمتع بالسمات الشعبية، ويزخر بالروح المسلمة الطامحة الى الاستقلالية، والتي جبلت بصليل السلاح وبحياة العسكرية". خلال متابعات خوسيه مارتي لنضال الشعوب العربية كان يعتقد اعتقاداً جازماً بأن النصر في النهاية سيكون حليف تلك الشعوب. فقد كان يرى حروب اسبانيا في المغرب انها "مملكة تسير في طريق الانحطاط تريد نصراً تكلل به حروبها، فتخوض حرباً في افريقيا المغرب، وترسل جنودها الى المغرب وكأنها تتمنى ان يجلل المغاربة راياتها بالغار". المتابع لكتابات المناضل الأميركي اللاتيني خوسيه مارتي، سواء النثرية منها أو الشعرية، يكتشف بأن لديه وعياً كاملاً بالقضايا الحقيقية للشعوب المضطهدة، وارتباط نضال شعوب العالم ضد الاستعمار في كل مكان. لذلك كانت كتاباته محاولة لتقوية عضد شعوب بلاده للاستمرار في النضال، لأن هناك شعوباً أخرى يفصلها المحيط عن بلاده تناضل ايضاً بلا هوادة ضد هذا الاستعمار الأوروبي الذي ركب رأسه واعتقد بأنه الحاكم الطبيعي لكل بلاد الأرض، ومن حقه استعباد من يشاء من الشعوب. كان المناضل الكوبي خوسيه مارتي الصوت المبكر في أميركا اللاتينية الذي كان واعياً بالدور العربي في التاريخ. وكان أيضاً الصوت الذي يذكر مواطني تلك البلاد البعيدة بالحضارة العربية، وقوة الارتباط بين شعوب أميركا اللاتينية المناضلة وبين الشعوب العربية والاسلامية باعتبارها ترتبط مع شعوب أميركا اللاتينية بوحدة المصير المشترك، وهو الأمر الذي لا يزال قائماً ولم يتغير، ويبدو انه سيظل كذلك لزمن طويل.