يمهد فصل "هيئة الطيران المدني" البريطانية عن فرعها هيئة "الخدمات الوطنية للرحلات الجوية"، وفق ما أعلنته الحكومة البريطانية نهاية الشهر الماضي، لتحول لافت في صناعة النقل الجوي البريطانية التي تسعى حثيثاً لتطوير امكاناتها بسرعة لمواجهة المنافسة الأوروبية والدولية. ويقول مسؤولو وزارة النقل البريطانية إن القرار حتّمه النمو المتواصل في حركة النقل الجوي، وارتفاع الضغط على المطارات الأوروبية والأميركية، بسبب الزيادة الكبيرة التي شهدتها رحلات رجال الأعمال خلال الأعوام العشرة الماضية، في وقت سجلت زيادة هائلة في عدد المسافرين جواً في أوروبا وأميركا الشمالية خلال العقدين الماضيين بلغت 40 في المئة، أغلبها في المجال الجوي في أوروبا الشمالية والبحر الأبيض المتوسط. إلا أن هذه الخطوة تثير قلق نقابات العمال ممن يعملون لدى الهيئة، على رغم الاغراءات التي تضمنتها المقترحات الحكومية والضمانات التي منحتها إياها الحكومة. ويبلغ عدد العاملين لدى "هيئة الطيران المدني"، التي تغطي بنشاطها حركة الطيران في أكثر من 12 مطاراً رئيسياً وفوق 3،2 مليون كيلومتر مربع من المساحة الأرضية، 6500 موظف بينهم 1200 في الهيئة نفسها و3،5 ألف موظف في هيئة "الخدمات الوطنية للرحلات الجوية". وتشمل لائحة المطارات التي تهتم بها الهيئة بعقود استثمار ذات فترات زمنية محدودة مطارات: هيثرو عشر سنوات، غاتويك، ستانستيد، مانشستر، برمنغهام خمس سنوات، آبردين، غلاسكو، ادنبره، كارديف، بلفاست، لندن سيتي عشر سنوات وفانبورو. وتعتبر "هيئة الطيران المدني" إحدى أكبر الهيئات من نوعها في أوروبا والعالم. وتضاعف حجم أعمالها السنوية إلى 550 مليون جنيه نحو 900 مليون دولار العام الماضي. وعرض نائب رئيس الوزراء البريطاني جون بريسكوت قبل أسبوعين تفاصيل الخطة التي قال إنها ستؤدي إلى بيع 51 في المئة من ملكية الهيئة وفصل "الخدمات الوطنية للرحلات الجوية" عن الهيئة الأم، من أجل السماح لهذه الأخيرة بالتخصص في تنظيم شؤون سلامة النقل الجوي وتنظيم اقتصاداته، على أن تباع خمسة في المئة من الأسهم التي ستعرض للبيع إلى الموظفين. وسبق للحكومة البريطانية أن طرحت في 11 حزيران يونيو 1998 تصورها الأولي، مؤكدة نيتها إقامة شراكة تجمع القطاعين العام والخاص في عملية تقاسم ملكية هيئة "الخدمات الوطنية للرحلات الجوية". وتبلغ قيمة الصفقة، التي ينتظر أن تتم في مدى عامين من الآن، 500 مليون جنيه. وهي ستؤمن ضخ بليون جنيه نحو 6،1 بليون دولار توظف في تحسين مراكز إدارة النقل الجوي وتحسين مستويات السلامة في عالم الطيران على مدى عشر سنوات، وفق ما قاله نائب رئيس الوزراء جون بريسكوت. وقالت الناطقة باسم الهيئة آن نونن ل"الحياة" إن الهيئة تحتاج إلى استثمار بليون جنيه لتطوير أجهزة الملاحة والمراقبة على مدى السنوات العشر المقبلة. وأضافت: "رفضت الخزانة البريطانية إقراضنا المال أو أن نقترضه من القطاع الخاص. لذا يشكل الدخول في شراكة مع شركاء استراتيجيين من القطاع الخاص فرصة لنا لتمويل عملية توسعنا وتطوير تجهيزاتنا". وتابعت تقول: "إذا تحالفنا مع شريك استراتيجي قوي فهذا سيفيدنا في تجديد عقود الاستثمار في المطارات الحالية التي نعمل فيها، كما سيسمح لنا بالتمدد إلى مطارات أخرى في بريطانيا، فضلاً عن التوجه إلى مطارات أخرى دولية لنتجاوز بذلك طابعنا كهيئة حكومية معنية بالسوق البريطانية وحدها". وتلفت قضية تخصيص الهيئة أنظار العاملين في قطاع الطيران في العالم، نظراً إلى الأهمية التي تشكلها المملكة المتحدة كمحور رئيسي لحركة الطيران بين أوروبا والقارة الأميركية، وهو القطاع الأكبر لحركة النقل الجوي في الكرة الأرضية، في وقت تزداد فيه حدة الازدحام الذي تعاني منه المطارات الأوروبية عموماً والبريطانية خصوصاً. ويقول العاملون في صناعة الطيران إن الإزدحام بات ظاهرة مستمرة على مدارالعام، وإنه يشتد، في صورة خاصة، في فصل الصيف وأثناء العطلات الموسمية. ويعود هذا الازدحام إلى أسباب عدة، بينها الارتفاع المستمر في حركة الطيران ومعدل النمو الكبير، الذي بلغ العام الماضي 7،8 في المئة، على خطوط الرحلات في أوروبا وأميركا الشمالية. وكانت الاحصاءات التي نشرتها "جمعية شركات الطيران الأوروبية" أشارت إلى أن الازدحام والتأخير، في المطارات الأوروبية، بلغا العام الماضي أسوأ معدلاته منذ عام 1989، وإلى أن الخسائر الناجمة عنها ناهزت بليوني دولار العام الفائت. وغطت الاحصاءات 26 شركة طيران أوروبية، وهي تظهر بوضوح زيادة مطردة في نسب التأخير التي تتعرض لها الرحلات الجوية، وإلى أن 20 في المئة على الأقل من الطائرات المقلعة يتعرض للتأخير، مدة لا تقل عن 15 دقيقة. وارتفعت هذه النسبة إلى 28 في المئة في شهر حزيران يونيو الماضي، الذي يعتبر ذروة موسم العطلات الصيفية، وموعد مغادرة عشرات ملايين المسافرين مع عائلاتهم باتجاه المقاصد السياحية ومنتجعات الاصطياف. وتفوق هذه النسبة ضعفي النسبة المسجلة عام 1994 البالغة 5،13 في المئة. وفاقم الأمر قيام بلدان الاتحاد الأوروبي خلال الشهور الأخيرة بتعديل المسارات الجوية وإعادة هيكلتها، ما زاد من الخلل الذي تعاني منه الرحلات في أوروبا الصيف الجاري. وتشهد انكلترا حركة جوية متنامية للرحلات المنطلقة باتجاه الأراضي البريطانية وعبر الأطلسي وباتجاه أوروبا وآسيا وافريقيا، كما أظهرت الاحصاءات الأخيرة للهيئة التي أشارت إلى أن عدد الرحلات التي مرت في أجواء انكلترا العام الماضي فاق 7،1 مليون رحلة، بزيادة قدرها 5،7 في المئة عن عام 1997، وبمقدار يتجاوز الضعفين مقارنة مع عام 1978 حينما كان عدد الرحلات الجوية فوق انكلترا يقتصر على 887 ألف رحلة في السنة. وتتوقع "هيئة الطيران المدني" أن يصل عدد الرحلات الجوية فوق انكلترا عام 2004 إلى 34،2 مليون رحلة. وهي لذلك بدأت منذ أشهر وضع خططها الجديدة لتعزيز حضورها وتطوير دورها في ظل التحرير المتزايد الذي تشهده صناعة الطيران الأوروبية. وقالت آن نونن إن العدد الاجمالي للرحلات الجوية في المملكة المتحدة يبلغ 8،1 مليون رحلة سنوياً. وهذا المعدل يشهد زيادة سنوية قدرها سبعة في المئة، "مما يعني أن حركة النقل الجوي ستتضاعف مرتين إلى 6،3 مليون رحلة في مدى عشرة أعوام من الآن". وكانت 20 شركة ومجموعة بريطانية ودولية أعربت عن اهتمامها بالاشتراك في العروض التي ستستدرج لتخصيص الهيئة، والتي ستُحول هيئة "الخدمات الوطنية للرحلات الجوية" فيها إلى شركة يطلق عليها "هيئة الشراكة الجديدة". وبين هذه الشركات "ناشيونال غريد" للكهرباء والاستثمار، ومجموعة "سيركو" المتخصصة في الادارة بالتحالف مع مصرف "نومورا" الياباني. وتضم لائحة الشركاء الاستراتيجيين المحتملين مجموعة "طومسون" الالكترونية الفرنسية ومجموعة "فلوغيشورون" الألمانية التي تعمل في مجال خدمات الاشراف الجوي، ومجموعة "لوكهيد مارتن" الأميركية. وتفيد عملية تخصيص "هيئة الطيران المدني" البريطانية في إظهار عمق التحولات التي تشهدها صناعة الطيران وخدماتها في أوروبا. ويمكن من خلال التطلع إلى مشاريع التوسع التي تنوي الهيئة القيام بها في المستقبل القريب، التعرف الى طبيعة التغيرات التي ستشهدها مؤسسات الاشراف على حركة الطيران وإدارة المطارات. وازداد الضغط على بعض المطارات الأوروبية، التي دخلت في صراع لتعزيز مكانتها، لا سيما منها الإقليمية، بعد تحرير صناعة النقل الجوي في دول الاتحاد الأوروبي في الأول من نيسان ابريل 1997، وإطلاق الحريات الجوية الكاملة لشركات الطيران للتنافس بقوة في ما بينها، وتأمين السبل المناسبة لزيادة عوائد تشغيل خطوط النقل في شبكاتها. وأدى التنافس على الاستحواذ على حصة أكبر من سوق النقل الجوي إلى حرب أسعار ضارية بين الناقلات الجوية، مما قلص هامش الربح وحال دون اتاحة الفرصة لشركات الطيران لتحويل قدر أكبر من طائراتها، إلى الخطوط الجوية الأقل ازدحاماً. ونتيجة هذا الوضع شهدت مطارات دولية عدة في أوروبا مشاكل ازدحام متزايد، تفاقمت في شكل خاص مذ العام الماضي، لا سيما مطار أثينا الذي يحتل المرتبة الأولى بين المطارات الأوروبية الأكثر ازدحاماً، يليه، بالترتيب، مطار اليكانتي ثم مطار مالقة ثم مطار تنريف ثم مطارا بالما ومايوركا في اسبانيا ثم مطار كورفو ثم مطار لشبونه ثم مطار نيس وبعدها مطارا كاغلياري وسردينيا. وعانت مطارات عدة من ظاهرة ازدحام تفاقمت في صورة لم تكن متوقعة، وذلك بسبب اتهام سلطات الطيران الناقلات الجوية بتحميل خطوط الشبكات الجوية "فوق طاقتها". وترفض شركات الطيران هذا الاتهام مطالبة بأن يتبع تحرير صناعة الطيران الجوي الأوروبية، تحرير السيادة على الأجواء في شكل حقيقي، مع تطوير أنظمة المراقبة وأجهزة ضبط الملاحة الجوية، اعتماداً على تقنيات متطورة تكفل استبدال التجهيزات المتخلفة التي تعاني منها سلطات المراقبة الجوية في بلدان أوروبية عدة، بسبب اعتمادها على معدات تعود إلى 30 عاماً مضت، على الأقل. وحاولت بريطانيا، التي تملك أكبر مطار للرحلات الدولية في العالم، وهو مطار هيثرو بمحطاته الأربع، تطوير أنظمة الملاحة الجوية وبناء مركز جديد في سوانويك، في هامشاير، لتنتقل اليه هيئة "الخدمات الوطنية للرحلات الجوية"، من منطقة وست درايتون حيث يقوم مقرها القديم بالقرب من مطار هيثرو، في منطقة ميدلسيكس. وتدير الهيئة مركزين آخرين للمراقبة الجوية في المملكة المتحدة أحدهما في مانشستر والآخر في برستويك في اسكوتلندا. إلا أن مشروع سوانويك الذي كان من المقدر أن يكلف 350 مليون جنيه نحو 560 مليون دولار تأخر عن موعده المحدد عام 1996، بسبب مشاكل اعترضت تطوير برمجيات الكترونية مناسبة. وبدلاً من أن يساهم في حل المشكلة المتفاقمة التي يعاني منها أكثر من 100 مليون مسافر عبر المطارات البريطانية سنوياً، سيطيل المركز، الذي لا بديل عنه، أمد المشكلة الحالية، "ريثما يجري افتتاحه شتاءالعام 2001- 2002". وقالت نونن: "الكلفة زادت. هناك 450 شخصاً من الموظفين لا بد من دفع رواتبهم وهناك الرسوم البلدية. كانت التوقعات أن ينتهي قبل ثلاثة أعوام إلا أننا مضطرون لدفع المبالغ الاضافية التي يتعين سدادها في حالة المشاريع المماثلة التي يتأخر تنفيذها". وأضافت: "مركز سوانويك سيكون لدى افتتاحه أحد أفضل مراكز المراقبة من نوعه في العالم. في مجال الاشراف على الطيران المدني لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي. لا بد من المبادرة وزيادة السعة وأن نقوم بكل ما في وسعنا لزيادة التنظيم وتحسين مستوي الخدمات". وتحدثت عن أهمية تخصيص الهيئة، الذي قالت إنه من المحتمل أن يُقر في البرلمان الخريف المقبل تمهيداً لصدوره في قانون برلماني بعد عامين، فأشارت إلى أن تحسين خدمات الملاحة الجوية أمر حيوي للغاية في بريطانيا. وقالت: "نحن لسنا مثل فرنسا والولايات المتحدة حيث لديها فضاء جوي لامتناهٍ. هذه جزيرة صغيرة ذات فضاء جوي ذي مساحة محدودة والهدف الموضوع نصب أعيننا باستمرار أن نطور السعة المتاحة لحركة النقل من خلال البحث عن كل الوسائل والحلول التقنية الممكنة".