في لقائي الأول مع علي أدهم في مركبة الترام التي كانت تنقله من بيته في مدينة الجيزة الى مقر عمله في وزارة المعارف، وكانت تنقلني من منزلي في نفس المدينة الى معهدي الجامعي، كان علي أدهم منكباً على مطالعة كتاب. وعندما التقيت به للمرة الأخيرة بعد ذلك بنحو أربعين عاماً في بيته الذي شيّده نجله المهندس المعماري في حي مصر الجديدة، كان عاكفاً على مطالعة كتاب وسط مكتبته التي تغطي مفرداتها جدران الحجرة وتتكدس في أركانها. فالكتاب هو الرفيق الدائم لعلي أدهم - ومعه السيجارة - وهو الذي انقطع له طوال عمره قارئاً ومؤلفاً ومترجماً، وانشغل به عن جميع مباهج الحياة الاجتماعية الأخرى. كان لقاء الترام فرصة للتعارف بين أديب كبير ذي شهر عريضة وطالب لا يريد ان يضيّع فرصة الانتقال الى معهده بمطية الكهرباء، فيقضيها في استذكار دروسه. وبسبب توافر هذه اللقاءات في مركبة الترام وفي الموعد نفسه يومياً، سألني علي أدهم عما أقرأ، فقدمت له كتاباً انجليزياً في الفلسفة هو الذي كنت استذكر مادته، ثم تبادلنا حديثاً مقتضباً اكتشفت في أثنائه أن مصاحبي في الرحلة اليومية هو هذا الأديب العالم، وعرف بدوره اسمي ولاحظ اجتهادي. ومنذ ذلك اللقاء المبكر قابلت علي أدهم في مجالس متعددة، كلها مجالس علم: في دار مجلة "المقتطف" التي صرت أعمل فيها، وفي لجنة التأليف والترجمة والنشر التي كانت تصدر مجلة "الثقافة" لمحررها الدكتور أحمد أمين بك 1886 - 1954 وفي وزارة المعارف حيث زرته وكان وقتها مديراً لمكتب وكيل الوزارة محمد رفعت بك 1889 - 1975 ثم الدكتور محمد شفيق غربال بك 1894 - 1961 ولم يكن للوزارة إذ ذاك إلا وكيل واحد، في حين صار لها اليوم وكلاء لا يحصى عددهم، وفي ندوة استاذنا عباس محمود العقاد 1889 - 1964 في مصر الجديدة، وفي دار المعارف، وفي مقر مجلة "الكتاب العربي" التي رأس تحريرها. وفي جميع هذه اللقاءات كان الكتاب هو الرفيق الملازم لعلي أدهم، وكانت اهتماماته موسوعية، يقرأ في التاريخ وفي الفلسفة وفي آداب الغرب والأدب العربي، وفي الاندلسيات، وفي فنون القصص، وفي المذاهب السياسية، وفي الشعر والنقد الأدبي، فضلاً عن سير الاعلام. وكان اتقانه للغة الانكليزية معواناً له على التفقه في جميع هذه الميادين الفكرية. وإذا كان قد اكتسب من استاذه الشاعر عبدالرحمن شكري 1886 - 1958 الذي كان يدرّس التاريخ والجغرافيا في المرحلة الثانوية حب القراءة، والرغبة الدائبة في الاطلاع، فقد اكتسب من صديقه العقاد عندما اتصل به بعد ذلك هذه الرؤية الموسوعية والنظرة التحليلية، فضلاً عن الاستقلال باستنباط الآراء وعدم الاقتصار على نقلها بعجرها وبجرها. ومع ان العقاد وطه حسين 1889 - 1973 كانا على خصومة مكتومة، كما كانت بين العقاد وعبدالرحمن شكري جفوة، فقد استطاع علي أدهم بشخصيته الرصينة وعلمه الغزير وخلقه النبيل ان يظفر بصداقة ثلاثتهم، ولا أظنه دخل في خصومة فكرية مع أحد، اللهم الا عندما أصدر كتاب "حقيقة الشيوعية" في سلسلة عنوانها "اخترنا لك" كان يشرف عليها الضابط أمين شاكر ت 1998 وتصدر عن الدولة بمقدّمة يكتبها الأديب محمد سعيد العريان 1905 - 1964 ويوقعها جمال عبدالناصر. فقد فزعت فصائل اليسار من هذا الكتاب، وبدأت تهاجم مؤلفه علي أدهم، فكان يعلق على هجومهم قائلاً: لِمَ تهاجمونني ولا تهاجمون صاحب المقدمة الذي بارك الكتاب؟ ومع هذا، فقد نهى علي أدهم نفسه عن الخوض في ملاحاة مع هذه الفصائل، واعتصم بناموسه الاخلاقي الداعي الى الترفع عن المناقشات البيزنطية، ولا سيما إذا ما اتصلت بالمذاهب، لأن معتنيقها لا يرون الحقيقة إلا من خلالها، وهم وحدهم على صواب ومن عداهم هم المخطئون. كان الولاء الأول لعلي أدهم هو للعمل الفكري الذي لم تشغله عنه الوظائف الحكومية المختلفة التي شغلها، سواء في مصلحة الجمارك في الاسكندرية أولاً ثم في القاهرة، أو في وزارة المعارف التي عمل في ادارتها الثقافية ورأس مكتب وكيلها ثم وزيرها طه حسين. ولم يكن له أي نشاط اجتماعي، ولا انخرط في أي جماعات، ربما مع استثناء عضويته في لجنة التأليف والترجمة والنشر. فقد كان بحق راهباً للفكر قابعاً في بيته، فلم يقع عليه الاختيار ليكون عضواً في المجامع العربية المختلفة أو في لجان المجالس العليا للآداب والفنون، ولا ضم اسمه الى الوفود الأدبية التي كانت تشارك في المؤتمرات الأدبية في مصر أو في العواصم المختلفة، ولا رشح لأي جائزة تمنح باسم الدولة. ولكن عندما شغل زميلنا الصحافي القديم عبدالمنعم الصاوي ت 1984 وزارة الثقافة والاعلام، سعى الى استصدار مرسوم بمنح علي أدهم نيشاناً ثقافياً، وتوجه بنفسه الى منزله لتقليده إياه، فكان هذا هو التكريم الوحيد الذي ناله علي أدهم في كل عمره الذي نيّف على الثمانين. وحياة علي أدهم تطرح قضية المعايير التي يُستند اليها في تكريم العاملين في ميادين الثقافة والفكر لأنها معايير تتحيّف في كثير من الاحيان على الذين يعملون في صمت، أما الذين يعملون في صخب وجلبة فترجح كفتهم في هذه المعايير. ومع ذلك، فقد كنت أرى علي أدهم قانعاً بحظوظه في الحياة، راضياً عن نفسه وعما قدمه من خدمات للثقافة العامة، ولم آنس منه أبداً شعوراً بالمرارة لأن التقرير تخطاه وتجاوزه الى منْ هم بمقام تلاميذه، أو لأن العزلة الفكرية التي آثرها لنفسه قد أورثته إحساساً بالاكتئاب. فقد كان يعرف أنه يؤدي رسالة لا ينتظر عنها مثوبة إلا من تقرير القراء، وأن أكبر مغانمه في الحياة هو انه عاش بكرامة الأعلياء، وظل مرفوع الهامة، يُذكر اسمه محفوفاً بكل إجلال واحترام. ولكن العمل الجاد الذي ينفع الناس لا يضيع أجره، حتى وإن كان صاحبه قد ودع الدنيا، إذ أخرج ابنه الروحي أحمد حسين الطماوي كتاباً جميلاً عنه عنوانه "علي أدهم بين الأدب والتاريخ"، وأقام المجلس الأعلى للثقافة احتفالية لعلي أدهم في عام 1998 بمناسبة مرور مئة عام وعام على ميلاده في 1897، كما سمعت ان طالباً جامعياً نال درجته عن أطروحة عقدها حول علي أدهم. وحسب علي أدهم انه شهد في حياته ثناء على نبوغه من الاعلام المعاصرين له كطه حسين والعقاد وسيد قطب 1906 - 1966 والدكتور زكي نجيب محمود 1905 - 1993 والدكتور توفيق الطويل 1909 - 1991 وغيرهم من المنصفين العدول. ولد علي أدهم في التاسع عشر من حزيران يونيو 1897 في الاسكندرية لأسرة ذات أصول تركية، والتحق بمدارس الثغر، ثم انتقل منها الى مدارس العاصمة الى ان نال شهادة البكالوريا في عام 1916. كان هذا هو كل حظه من الدراسة المنهجية، ولكنه - وقد اكتشف حقيقة اهتماماته في سن مبكرة - ثقف نفسه بنفسه في عصامية محمودة، سواء بمطالعة المجلات الأدبية، ولا سيما مجلة "الهلال" في عهد منشئها جرجي زيدان 1816 - 1914 أو بغشيان المكتبات العامة للاغتراف من نفائس الكتب في خزائنها. وفي سن مبكرة بدأ علي أدهم يكتب في المجلات الأدبية، بادئاً بمجلة "البيان" لصاحبها الشيخ عبدالرحمن البرقوقي، ثم صار يكتب في مجلات أخرى منها "الثقافة" و"قافلة الزيت" وغيرها، كما أشرف على بعض السلاسل. وبفضل إجادته للغة الانكليزية، كان يُعهد اليه في مراجعة عشرات من الكتب المترجمة في موضوعات شتى، فكان يقوم بهذه المهمة بأمانة وبصر. وعندما صدرت الطبعة العربية من مجلة "المختار من ريدرز دايجست" للمرة الأولى في عام 1943، استعان محررها فؤاد صروف 1900 - 1985 بكبار المترجمين لنقل مادتها، وكان منهم علي أدهم الى جانب العقاد وابراهيم عبدالقادر المازني 1890 - 1949 وعبدالرحمن صدقي 1896 - 1973 ويحيى حقي 1905 - 1992 ومنْ إليهم. بدأ علي أدهم التأليف منذ عام 1938 عندما أصدر كتابه الأول "صقر قريش" وأهدته مجلة "المقتطف" الى مشتركيها في هذا العام. وتوالت بعد ذلك مصنفاته شاملة قطاعات عريضة من المعارف. ففي السير والتراجم أصدر الى جانب "صقر قريش" كتب: "منصور الاندلس" و"غاريبالدي" و"بودا" و"متزيني" و"المعتمد بن عباد" و"أبو جعفر المنصور" و"عبدالرحمن الناصر" و"شخصيات تاريخية". وفي النقد الأدبي أصدر "على هامش الأدب والنقد" و"النقد والجمال في روسيا" و"تلاقي الاكفاء". وفي الدراسات التاريخية أصدر "بعض مؤرخي الاسلام" و"تاريخ التاريخ" و"صور تاريخية" و"الهند والغرب". وفي المباحث الفلسفية والاجتماعية أصدر "نظرات في الحياة والمجتمع" و"العبقرية" و"محاورات رينان" و"لماذا يشقى الانسان" و"بين الفلسفة والأدب". وفي الدراسات الأدبية أصدر "ألوان من أدب الغرب" و"فصول في الأدب والنقد والتاريخ" و"صور أدبية"، وله في السياسة كتب هي: "حقيقة الشيوعية" و"الشيوعية والاشتراكية" و"الجمعيات السرية" و"المذاهب السياسية المعاصرة" و"الفوضوية". كما ترجم مجموعة من القصص هي "الخطايا السبع" و"قيراتا" و"روضات الفردوس" و"صديق الشدة" و"رينيه" من تأليف شاتوبريان. يا له من انتاج حافل زاد على الثلاثين كتاباً أضيفت اليها أخيراً مجموعة من مقالاته المبثوثة في المجلات أصدرتها هيئة الكتب المصرية، عدا طبعات جديدة من بعض كتبه أصدرها المجلس الأعلى للثقافة عند احتفاله بمئوية علي أدهم. وهناك ملاحظة تفرض نفسها عند الحديث عن الأدباء، وهي أن أبناءهم ينأون بأنفسهم تماماً عن ميدان الأدب مؤثرين عليه الميادين العملية كالطب والهندسة والزراعة والاقتصاد وما إليها، وهي ظاهرة تصدق على أبناء علي أدهم، وهم بين طبيب ومهندس معماري ومهندس زراعي، كما تصدق على أدباء آخرين مثل محمد عبدالغني حسن 1907 - 1985 فأبناؤه بين مهندس وطبيب، ومحمد عبدالله عنان 1898 - 1986 فأبناؤه بين طبيب ومهندس ومتخصص بالعلوم. وما أوردت إلا أمثلة لها أشباه كثيرة في حياتنا، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على ان الابناء يرون من خلال ملاحظتهم لآبائهم الأدباء أن ما يلقونه من معاناة في حياتهم لا يتكافأ مع حظوظهم المادية المتواضعة بالمقارنة بغيرهم من فئات المجتمع، وما دامت المادة هي القيمة العليا في عصرنا، فقد انصرفوا عن هذا الطريق الموحش الشاق الى طرق ممهدة تُفضي الى النجاح العملي في الحياة. وعندما توفي علي أدهم في الثامن من كانون الثاني يناير 1981 امتلأت صفحة المناعي بتعزيات لا من الهيئات الأدبية أو الفكرية، بل من شركات السياحة والفنادق التي كانت تشاطر كريمته "آمال" العزاء في والدها لأنها زوجة خبير سياحي كبير. بل إن عزوف علي أدهم عن الأضواء وتخلفه عن المشاركة في الندوات التلفزيونية والاذاعية التي تجلب الشهرة، ومجافاته للمنابر العامة، جعلت حتى الجامعيين من اساتذة الجامعة يجهلون شأنه. فقد دعت مذيعة تلفزيونية استاذاً جامعياً كبيراً لإجراء حوار معه - وكان يُطلق على هذا الاستاذ لقب "المستشار الثقافي" - وكان من جملة الأسئلة التي وجهتها إليه سؤال عن رأيه في الأديب علي أدهم. فتلعثم ثم قال: يبدو أن هناك خطأ في السؤال، فلعلك تقصدين الممثل عادل أدهم! فقالت المذيعة: بل أقصد الأديب علي أدهم. فما كان من المستشار الثقافي إلا ان قال: "يبدو أنه أديب مبتدئ، لأنني لم أقرأ شيئاً له! وقد أذيع هذا الحوار على الملأ الواسع، "فابتلعه" جمهور المثقفين ولم يحظ بتعليق من أحد، ولا حتى مني مع أنني شاهدته بنفسي! وكنت سألت علي أدهم عما إذا كانت هناك صلة عائلية بينه وبين اسماعيل أحمد أدهم 1911 - 1940 وهو أديب كان يعيش في الاسكندرية أسوة بعلي أدهم وأصدر مجموعة كبيرة من الكتب باللغات العربية والانكليزية والروسية، وقيل وقتها ان وراء هذا الأديب شبحاً يؤلف له الكتب. فأكد لي علي أدهم ان الصلة العائلية منتفية تماماً بينه وبين هذا المستعرب التركي. ثم قال انه التقى به مرات في الثغر السكندري ولم يكتشف من أحاديثه أي مظاهر للعبقرية أو حتى لإجادة اللغة الانكليزية فضلاًَ عن الروسية. وحاولت اقناع علي أدهم بأن يسجل انطباعاته عن هذا الأديب الذي رُمي بالزندقة وعثر على جثمانه ذات صباح منطرحاً على شاطئ البحر في الاسكندرية وقيل وقتها انه انتحر، وقيل بل قتل. ورجوته ان يلقي أضواء على هذه المسيرة المحيّرة في أدبنا المعاصر، فقال ان رأيه فيه سيء، ومن الأصوب الاحتفاظ به لنفسه. وفي لقاءاتي الأخيرة مع علي أدهم كان يشكو مرّ الشكوى من أنه لا يجد ناشراً لكتبه. وكان يقول ان هذه المشكلة لم تصادقف وهو في بدايات عمره، ولكنها باتت مستحكمة بعدما استقرت مكانته في عالم التأليف. وهي شكوى سمعتها من محمد عبدالغني حسن ومن الشاعر حسن كامل الصيرفي 1908 - 1984 ومن سواهما. وكنت أعزيهم جميعاً بقولي ان الكتب باتت تخضع لنواميس السوق، فليس العيب في اعمال يخرجها علي أدهم أو عبدالغني أو الصيرفي، وانما العيب في العوامل التجارية المطاردة للكتاب الجاد. وقد مات ثلاثتهم وفي جعبة كل منهم مخطوطات تعذْر عليه نشرها في حياته، فهل يُقدر لها الظهور في غدٍ قريب؟ لعل وعسى اذا تغيرت نواميس السوق. * كاتب مصري.