يُنظر إلى الزيارة الحالية لوزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين إلى الجزائر على أنها بداية انطلاقة جديدة للعلاقات الثنائية ربما تؤدي في آخر المطاف إلى إنهاء أصعب علاقة بين مستعمرة سابقة ودولة أوروبية. والأرجح أن محادثات الوزير الفرنسي مع الرئيس الجزائري مهدت للقاء وربما للقاءات سيعبد الطريق أمام التطبيع الكامل للعلاقات بعد نحو أربعين عاماً من الهزات والتقلبات. ويمكن القول إن العقدة التاريخية بين البلدين جعلت "نموذج" العلاقات الفرنسية - الجزائرية حالاً فريدة في علاقات فرنسا ببلدان العالم الثالث وافريقيا ليس فقط على الصعيد السياسي، وإنما كذلك على الصعيد الرمزي. فكثير من أفراد النخبة السياسية والثقافية في فرنسا، إن كانوا داخل الحكم أو خارجه، ظل يرفض في وجدانه العميق الإقرار بأن الجزائر انفصلت تاريخياً وإلى الأبد عن فرنسا. وغذت هذه الرؤية ردود فعل قوية لدى الجزائريين على أي مبادرة أو تصريح يعكس تباعداً في المواقف بين باريسوالجزائر، سواء في القضايا المتصلة بالصراع الأهلي الذي مزّق البلد طوال السنوات الماضية، أو في المسائل الاقليمية والدولية. والثابت ان هناك تحسناً في رؤية النخبة الفرنسية للعلاقة مع الجزائر عكسها الإقرار الرسمي أخيراً بنهاية "الحرب الجزائرية" حرب التحرير للاستقلال عن فرنسا ما يعني قبول العقل الفرنسي بنتائجها السياسية والتسليم بواقع الانفصال بين جسمين لم تجمعهما في الحقبة الاستعمارية سوى قوة السيف. وربما يكمن مصدر الأزمات والصراعات التي طبعت العلاقات الفرنسية - الجزائرية طوال العقود الأربعة الماضية في كون فئات فرنسية واسعة يميناً ويساراً تعاطت مع الجزائر مثلما تعاطى العرب مع الأندلس بعد خروجهم منها، أي بوصفها فردوساً ضاع لكن ضياعه موقت. وانعكست هذه الرؤية في تشبت الفرنسيين العنيد بالجنوب الجزائري والصحراء الغنية بالنفط في مفاوضات "ايفيان"، وكذلك في الصعوبات الجمة التي كان على الجنرال شارل ديغول أن يجابهها كي يفرض الإقرار باستقلال الجزائر الكامل على النخبة والجيش والرأي العام، خصوصاً أن الأكثرية كانت ترفض في قرارة نفسها مسايرته في القرار. ليس هذا الكلام مجرد استعادة لتاريخ مضى، فشحنته لا تزال جاثمة بوزنها السياسي والرمزي على العلاقات الثنائية التي لا يمكن ان توضع على سكة التطبيع الكامل والتعاطي الندي ما لم تقفل نافذة الإرث التاريخي السلبي. وبعدما قطعت الجزائروباريس شوطاً مهماً في معاودة بناء الثقة وإرساء علاقات متكافئة على أيام الرئيس الأسبق جيسكار ديستان، وهو الرئيس الوحيد الذي زار الجزائر 1975، انتكست العلاقات وعادت مجدداً إلى منطقة العواصف والأزمات بسبب تفاعلات قضية الصحراء أولاً، ثم بسبب الملفات الثنائية الساخنة وبينها إصرار الجزائريين المشروع على استكمال استرجاع وثائقهم من فرنسا. وليس من مصلحة فرنسا في ظل الانفراج المغاربي الحالي، معطوفاً على رغبة القيادة الجزائرية الجديدة بتكريس انفتاح واسع على القوى الكبرى، ان تبقي الملفات العالقة حجر عثرة أمام التقارب الثنائي، خصوصاً ان منافسين أقوياء باتوا ينشطون في حماسة منقطعة النظير لإقامة جسور مستقبلية مع بلدان المنطقة. لذا فمن المهم ان تكون القمة الجزائرية - الفرنسية المرتقبة نقطة انعطاف تعكس رغبة الزعامة الفرنسية باتخاذ قرارات صعبة من نوع القرار الذي اتخذته الزعامة الديغولية.