يبدو غريباً للغاية، ان يطلب المحتل الاسرائيلي الغاء مفاوضات الحل المرحلي والتوجه نحو مفاوضات الحل الدائم، فالمحتل يفضّل عادة الحلول الجزئية، ويهرب من مواجهة استحقاق الحل الدائم، لأن الحل الدائم المنطقي بالنسبة للاحتلال هو انه ينهي احتلاله وان يرحل. ويبدو غريباً للغاية ان يصرّ صاحب الحق الفلسطيني على تنفيذ الحل المرحلي، رافضاً الانتقال الى مفاوضات الحل الدائم فوراً، فصاحب الحق يفضل عادة الحلول الدائمة، ويهرب من مواجهة استحقاق الحلول المرحلية، لأن الحل المرحلي يعني بقاء الاحتلال ودوامه لفترة اطول. ما هو السرّ في هذه الغرابة المتبادلة؟ ان اصحاب الامر لا يتحدثون، ولا يكشفون سرّهم، فلنحاول ان نفعل ذلك نيابة عنهم. المفاوض الاسرائيلي يعرف سلفاً انه سيتشدد الى حد التعجيز عند مناقشة قضايا الحل النهائي، فلن يقبل ابداً مناقشة مصير مدينة القدس ولو مجرد مناقشة، ولن يقبل ابداً التسليم بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ارضهم، ولن يقبل ابداً بإزالة المستوطنات، ولن يقبل ابداً قضايا اخرى كثيرة مثل المياه والسيادة على المعابر الحدودية، ولانه يعرف انه لن يقدم شيئاً في كل هذه القضايا، فهو يريد ورقة ضغط، او ورقة اغراء، تكون جاهزة بين يديه ليستعملها في المساومة القادمة التي لا بد منها، فعند احتدام الجدل سيقول: اذا اردتم اتصالاً جغرافياً بين قطاع غزة والضفة الغربية فيجب ان تتنازلوا عن كذا وكذا، واذا اردتم ان نرفع نسبة المياه التي تشربونها فيجب ان تتنازلوا عن كذا وكذا، وهذا ما يطلق عليه باراك اسم "التفاصيل" وهو يصف التفاصيل بأنها طريق الجنة او طريق الجحيم. اما بالنسبة للمفاوض الفلسطيني، فإنه يستقرئ سلفاً كيف سيفاوض الاسرائيلي، ولذلك يفضّل ان يحصل من خلال الحل المرحلي على اكثر ما يمكن الحصول عليه، حتى تقلّ نسبة الضغوط والمساومات التي سيلجأ اليها المفاوض الاسرائيلي. واذا كان هذا الاختيار يبدو للوهلة الاولى صائباً، فإنه يبدو بعد التدقيق فيه خطيراً للغاية، فهو يكشف عن حالة من اليأس تجعله يفضل الجزئي على الكلي، والحق المنقوص على الحق الكامل. والمفاوض اليائس هو عادة أسوأ انواع المفاوضين، لانه عرضة لقبول التنازلات، او عرضة لتلقي أسوأ انواع الابتزاز من الخصم حين يدرك الخصم يأسه. يعني هذا ببساطة مؤلمة، ان المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية المنتظرة ستكون أسوأ مشهد تفاوضي ممكن، وسيكون الفلسطينيون هم الخاسر الاكبر فيها، سواءً تم اللجوء الى تكتيك التفاوض الاسرائيلي، او تكتيك التفاوض الفلسطيني الراهن. هل من مخرج من هذا المأزق؟ نعم، هناك مخرج منطقي وعادل ومقبول ومشرّف وهو ان يرفض المفاوض الفلسطيني العودة الى المفاوضات، الا بعد تحديد هدفها النهائي، والا بعد الاقرار الاسرائيلي بقبول هذا الهدف النهائي، والهدف النهائي هنا هو: الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الارض المحتلة عام 1967، والسيادة الفلسطينية الكاملة على هذه الارض، وحلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين استناداً الى مرجعية الشرعية الدولية ممثلة بالقرار رقم 194، قرار حق العودة. ويسجل التاريخ القديم والحديث، انه ما من مفاوضات ناجحة جرت، الا حين تمّ سلفاً تحديد هدفها النهائي. وهذا ما تطالب به سورية الآن، وهذا ما طالب به حتى انور السادات، في ما يخص الارض المصرية، قبل ان يذهب الى مفاوضات كامب ديفيد حيث اصر على الحق المصري وتنازل عن حقوق تخص شركاءه العرب. ولكن تحديد الهدف النهائي للتفاوض يحتاج الى ارادة فلسطينية بعيداً عن الاستعداد القائم لسماع الاوامر الاميركية والرضوخ لها.