ليس مفيداً للديبلوماسية الفلسطينية أن تستمر في نفس نمط التعاطي مع الديبلوماسية الإسرائيلية أو الأميركية بعدما أوضح رئيس وزراء إسرائيل الجديد ايهود باراك الخطوط العريضة لسياساته وأساليب تعاطيه مع اللاعبين في عملية السلام للشرق الأوسط. عليها الآن الانتقال من خانة ردود الفعل إلى مرتبة وضع استراتيجية متماسكة توضح الخطوط الحمر وتحدد آفاق المرونة بصورة تحسم مطاطية الأخذ والعطاء المعهودة. وبما أن الدور الأميركي الجديد الذي يريده باراك سيُترجم عملياً إلى إبعاد مساهمة الرئيس بيل كلينتون وتحييد تعاطفه مع الفسلطينيين الذي ظهر في أعقاب زيارته إلى غزة، قد يكون مفيداً للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تحقيق نقلة نوعية في العلاقة مع الرئيس السوري حافظ الأسد بما يجعل سورية سنداً رئيسياً للسلطة الفلسطينية في مسيرتها الصعبة. والمهمة معقدة وعسيرة إنما ليست مستحيلة. وقد تكون الفرص اليوم متاحة إذا كانت الطروحات موضوعية. أجواء ايهود باراك تتسم بالواقعية والبراغماتية بعيداً عن المثالية والرؤيوية والعاطفة. إنه العسكري الآتي إلى السياسة بعقلية عملية لها منافعها وأضرارها. وهو يفضل وضوح المعالم والخرائط التي على أساسها يتم التفاوض بدلاً من الوصول إلى الهدف دفعة بدفعة. لذلك، سيكون أسهل على باراك التعاطي مع المسارين السوري واللبناني من المفاوضات، أولاً، انطلاقاً من وضوح المواقف على تباعدها. وثانياً، لأن ملف الجولان وملف جنوبلبنان بقيا معلقين بتماسك حيث توقفت المفاوضات. وثالثاً، لأن المفاوض السوري تجنب مذكرة تفاهم هنا واتفاقية مزرعة "واي" هناك وأصر على انتهاء التفاوض بتوقيع على معاهدة سلام إذا أسفر التفاوض عن اتفاق. التجربة الفلسطينية، بسبب خصوصيتها، وبسبب القرارات السياسية أيضاً، شهدت الكثير من الانتقالية والمرحلية ومرت بعمليات انقاذ من الاحباط قوّضت بعض الأطر والمعالم الرئيسية للطموحات الفلسطينية. ذلك النمط من التفاعلية الفلسطينية، تذمراً أو تجاوباً، اضطراراً أو تشوقاً، اجتهاداً أو افلاساً، تراجعاً أو استثماراً، أدى إلى نتائج سلبية في كثير من الحالات وعلى أكثر من صعيد وعند أكثر من جهة. فالفلسطينيون انفسهم منقسمون ليس فقط إلى معسكرين، مع وضد "أوسلو"، وإنما إلى معسكرات عدة بعضها يرى الخطورة الكبرى للمطاطية والتفاعلية في تقاعس السلطة الفلسطينية في تمسكها بأسس الشرعية الدولية وهي تقوم بالمفاوضات. هذا البعض يشير بالذات إلى انحسار الأرضية الواردة في قرارات الأممالمتحدة، ثم الاستفاقة عليها، مثل قرار حق العودة أو التعويض 194، وقرار التقسيم 181، وغيرهما. ويشير هؤلاء إلى "الصفقة" الأخيرة التي وافقت السلطة الفلسطينية بموجبها على عملية اخراج بائسة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين تحت الاحتلال أدت إلى إجهاض أسس قانونية باسم التجاوب مع الأجواء السياسية. ثم هناك صعيد النظيرة العربية العامة، والشعبية خاصة، لأساليب التفاعلية الفلسطينية وما أسفرت عنه من تراجع مركزية القضية الفلسطينية في العاطفة والفكر العربي وانتزاع صفة "لب" النزاع العربي - الإسرائيلي عنها نتيجة انفصال المسار الفلسطيني من جهة، ونمط ردود الفعل "التلبوية" من جهة أخرى. ولذلك حدث انحسار في التعاطف مع الدعوة الفلسطينية المتجددة في الآونة الأخيرة إلى العودة لاعتبار القضية الفلسطينية "جوهر" النزاع العربي - الإسرائيلي. لربما كان لنمط التفاعلية مردود على الساحة الأميركية في شخص الرئيس بيل كلينتون بالذات، بعدما اطلع على تفاني ياسر عرفات في التجاوب مع الإدارة الأميركية انقاذاً للمسيرة السلمية، وتلقيه بالمقابل تعجرفاً وتعنتاً وكراهية من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتاناهو. ولربما كان لنتانياهو جزء من الفضل لأنه ساهم، افرازاً وليس تعمداً، بنقل العلاقة الأميركية - الفلسطينية إلى عتبة جديدة من حيث السياسة والعاطفة والتعاطف بين الرئيس الأميركي والتجربة الفلسطينية. وهذا بالذات ما يريد ايهود باراك احتواءه. لذلك طلب في واشنطن أن ينحسر الدور الأميركي من شريك إلى معزز للمفاوضات الثنائية المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. فعاطفة بيل كلينتون قد تكون عائقاً في طريق استفراد إسرائيل بالسلطة الفلسطينية. فهو الرجل الذي سجل سابقة زيارة أول رئيس أميركي إلى أرض فلسطينية عندما زار غزة في كانون الأول ديسمبر الماضي، وحطم جداراً نفسياً وسياسياً معترفاً بالمحنة وبالتطلعات الفلسطينية ببعد إنساني ورسمي ومؤسساتي في آن. هو الرجل الذي تحدث عن الفرصة "لتقرير مصيركم على أرضكم التي تنتظركم"، وخاطب القيادة الفلسطينية بلغة الشراكة. وهو الرجل الذي قال قبل أسبوعين، عفوياً، إن للفلسطينيين الذين شرّدوا حق العودة، ثم أسرعت الإدارة الرسمية إلى تصحيح "زلة اللسان". وقد يكون في أعماقه، بعد الاطلاع الوثيق على التجربة الفلسطينية التفاوضية، أنه ليس من العدل استنزاف الضعف الفلسطيني أكثر فأكثر. ولذلك، كان من الضروري تحييد عاطفة وتعاطف بيل كلينتون، فتمنى باراك عليه "الابتعاد عن الشراكة" في العملية، وسحب بذلك ورقة ثمينة من الفلسطينيين ليس في وسع كلينتون التمسك بها لاعتبارات داخلية وانتخابية. وعليه، لن يفيد أن تأتي ردود الفعل الفلسطينية "لتتمسك بالدور المركزي" الأميركي أو على نسق ما قاله صائب عريقات بأن "على الدور الأميركي ان يُعرف طبقاً للمصالح الأميركية، وتعريف هذا الدور ليس عائداً إلى باراك". ولا لزوم للخوض في تحديد وتعريف الدور الأميركي في إطار التسابق مع باراك أو تحديه، ذلك ان العلاقة الأميركية - الإسرائيلية تبقى دائماً عضوية فوق أي اعتبارات أخرى. قد يكون مفيداً الاستمرار في الاستثمار الثنائي في شخصس بيل كلينتون، والخطوة الأولى ممكنة في طلب اجتماعات أميركية - فلسطينية دورية على نسق ما ضمنه باراك في واشنطن من اجتماعات بينه وبين كلينتون كل أربعة أشهر. فالغياب أو التغيب الفلسطيني عن الساحة الأميركية ليس ضرورياً أو نافعاً، ومجالات تعزيز ما انجز في تلك العلاقة مفتوحة نسبياً إذا برزت الأفكار الخلاقة. إنما الأهم هو ألا تتمسك السلطة الفلسطينية بما تعتبره أساسياً وجذرياً في عملية التفاوض مع إسرائيل بأسلوب يغلّب الفحوى على الاخراج، وبلغة تتماشى مع الأجواء الايجابية السائدة وتتجنب تصنيفها إعلامياً بالسلبية. وفي هذا رؤيوية وفن. فياسر عرفات محق تماماً بمقاومة بدعة باراك الأخيرة القائلة بتغليف اتفاقيات "واي" بالمفاوضات على الوضع النهائي للأراضي والتي قد تستغرق 15 شهراً، حسب تصور باراك. إصرار عرفات على "التنفيذ الفوري والسريع" للاتفاقيات التي يفترض أن تنسحب القوات الإسرائيلية بموجبها من 13 في المئة من الضفة الغربية موقف في محله ومن فائق الضرورة أن يتمسك به عرفات طالما وجده في المصلحة الفلسطينية وأعلن عنه. أما "اخراج" الإصرار بلغة "مرفوض" أو "لن نقبل" فإنه في حاجة إلى إعادة نظر لأنه يحسر الاستفادة من تعرية النقص والخلل في طروحات باراك ولربما أيضاً جهله للوقائع السياسية الفلسطينية. وللتأكيد ان الحزم في الموقف في محله، بل ضروري، من أجل ايصال رسالة فائقة الأهمية إلى باراك فحواها ان السلطة الفلسطينية انتقلت من التفاعلية والتجارب والمطاطية إلى الواقعية والبراغماتية الضرورية لانجاح الرغبات المشتركة بتسوية سلمية حقيقية. كذلك، فإن التمسك بضرورة تنفيذ اتفاقيات "واي" التي وقعها نتانياهو ولم ينفذها وتمثل أضعف الايمان بنوايا باراك، لا يكفي بحد ذاته. فالمرحلة الراهنة تتطلب وضع استراتيجية فلسطينية مفصلة وحازمة تترك لنفسها هامش المرونة أو المناورة بين المقبول والمرفوض، تتطلب حسم المطاطية المفتوحة والتفكير بأخذ المبادرة في بعض الحالات وصياغة لغة وخطاب سياسي له مردود ايجابي على الطرف الفلسطيني. ومن الضروري أن تكون لهذه الاستراتيجية أقدام ثابتة في البيئة العربية سيما المباشرة المعنية بعملية السلام، وسورية مهمة في هذا المجال. فليس عابراً أن تقدم دمشق "نصيحة" إلى المعارضة الفلسطينية لعملية السلام ولاتفاقية "أوسلو" بالتركيز على "العمل السياسي" بعيداً عن "المظاهرة العسكرية". صحيح ان دمشق تحسب لنفسها في إطار المردود لها على صعيد العلاقة الثنائية مع الولاياتالمتحدة، لا سيما في إطار حذف اسم سورية من قائمة الدول التي تدعم "الارهاب"، إنما صحيح أيضاً ان القرار بتحويل المنظمات الفلسطينية المعارضة من منظمات "كفاح مسلح" إلى "أحزاب مدنية" معارضة مهم للسلطة الفلسطينية في هذا المنعطف. فالديبلوماسية السورية التي تتقن فن التفاوض، تتقن أيضاً قراءة معاني كل مبادرة وكل تلميح وكل تفصيل للديبلوماسية العلنية والسرية. وإذا كان من فائدة تركها وراءه بنيامين نتانياهو، فإنها في التأثير على فكر دمشق الذي افترض تقليدياً أن الحزبين الرئيسيين في إسرائيل وجهان لعملة واحدة، وان شخصية رئيس الوزراء هامشية في صلب السياسات، فقد أدت أساليب نتانياهو وفكره بدمشق إلى إدراك قيمة الفرصة المواتية. ومع مجيء باراك إلى الحكم، قررت دمشق الاستفادة من الفرصة المواتية لأسباب عديدة بينها القرار الاستراتيجي بالسلام، وحال الاقتصاد، وزوال معادلة التكافؤ الاستراتيجي العربي مع إسرائيل، وتقدم سن القيادة بما يجعلها تفكر بما ستخلفه للأجيال الجديدة التي ستحكم في سورية، والعلاقة الثنائية مع الولاياتالمتحدة. وبالتالي، فإن الخطاب السياسي الآتي من دمشق فيه الكثير من البراغماتية والواقعية والمرونة مع ترك الباب مفتوحاً على العودة إلى منطق "المقاومة" إذا فشل منطق "التفاوض". فوزير الخارجية السوري فاروق الشرع يتحدث عن حل العشرين في المئة في الخلافات مع إسرائيل "خلال بضعة أشهر وربما حتى خلال بضعة أسابيع قليلة". وعن مستقبل "حزب الله" يتحدث عن "قوة المنطق الذي سنستخدمه لاقناعه بالتزام اتفاق سلام إذا كان هناك انسحاب حقيقي وكامل من الجنوب". لكنه حرص على الإضافة "وإذا كان هناك شك طفيف بالنوايا الإسرائيلية، فإن نفوذنا مع حزب الله لن ينجح". هذه الديبلوماسية البراغماتية التي تطبقها دمشق على المسارين السوري واللبناني في المفاوضات مفيد لها مدها إلى المحطة الفلسطينية بما يساهم في تلك النقلة النوعية في العلاقة السورية - الفلسطينية. والمبررات ليست فقط "عاطفية" أو "قومية" أو "وطنية" وإنما "عملية" أيضاً بسبب نوعية السلام الذي ستخلفه المفاوضات على الصعيد الفلسطيني في حال استمرار الانفصام والتشكيك السوري - الفلسطيني. فالبقعة الجغرافية التي ستضم الكيان الفلسطيني المستقل تقع في الجيرة السورية المباشرة. وإذا كانت الشروط على الأدلة الفلسطينية المنتظرة تحسب حسابات كبيرة مثل العراق بمستقبله وحاضره والأردن "كمنطقة عازلة" والمياه كمسألة مركزية والأمن حسب التعريف والتفكير الإسرائيليين، فإن سورية معنية ومطالبة بأن تسند الفلسطينيين في مفاوضاتهم وإن بصورة غير مباشرة. ثم ان موضوع "توطين" الفلسطينيين أو "استيعابهم" مسألة ملحة عند معالجة الملف اللبناني، وسورية بالطبع معنية. فالسلام الشامل مطلب إسرائيل، وشمولية التفاوض والحل مطلب من سورية والسلطة الفلسطينية. كلاهما مطالب بإعادة التدقيق في العلاقة بينهما، ليس بهدف ايقاف مسار من أجل الآخر أو تأخير توقيع في انتظار الآخر، وإنما ببعد نظر. فباراك في واشنطن حرص على تعزيز الشراكة الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية وتطويرها، من تحصينها عسكرياً أيام الحرب إلى مضاعفة التحصين بالتفوق العسكري النوعي والكمي أثناء السلام الموعود والمنتظر، من دون أن ينسى أن يكون طيار إسرائيلي أول رجل فضاء على متن مكوك الفضاء الأميركي. فباراك، رجل الرؤيوية البراغماتية لا يحلم بمثالية التعايش والانتعاش. مراقبته وقراءته ضرورية حتماً، إنما وضع الاستراتيجيات الواقعية والتحسبية يبقى أكثر إلحاحاً وأهمية.